ومن دقائق القرآن ولطائفه في البلاغة، أنه يقدم أحد الاسمين المتلازمين في آية، لسر من أسرار البلاغة يقتضيها ذلك المقام، ثم يؤخر ذلك المقدم في آية أخرى، لسر آخر: فيقدم السماء على الأرض في مقام، ويؤخرها عليها في مقام آخر.
ومن هذا الباب تقديم الإنس على الجن، في آية الأنعام، لأن معرض الكلام في عداوتهم للأنبياء، وهي من الإنس أظهر، ودواعيها من التكذيب والإيذاء أوضح.
شياطين الإنس أخطر:
وفي آية "الناس" قدم الجنة على الناس، لأن الحديث عن الوسوسة، وهي من شياطين الجن أخفى وأدق، وإن كانت من شياطين الإنس أعظم وأخطر وأدهى وأمر: فشيطان الجن يستخدم شيطان الإنس للشر والإفساد، فيربى عليه ويكون شرًّا منه، لأنه بمثابة السلاح الذي يفتك به؛ ورب كلمة واحدة صغيرة يوحيها جني لإنسي، ويوسوس إليه بتنفيذها، فتتولد منها فتن، ويتمادى شرها من قرن إلى قرن ومن جيل إلى جيل.
الإنسان يعلو أو يتسفل:
وهذا النوع الإنساني المهيأ لقابلية الخير وقابلية الشر، إذا انحط وتسفل كان شرًّا محضًا، وإذا ترقى وتعالى شارف أفق الملأ الأعلى، وأوشك أن يكون خيرًا محضًا، لولا أن العصمة لم تكتب إلا لطائفة منه، وهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.