بعيد الآمال كبير المطامع في الإصلاح طموح إلى المجد، كل همه أن يكون نافعًا لغيره أو أن يدفع الضر عن سواه. مثِّلْ لنفسك هذا الرجل بعواطفه الحية ونفسه الكبيرة ثم ضَعْهُ في أمة فَسد أمرها واختل نظامها وقبحت عاداتها رغم ما فيها من استعداد للخير وتقبل الصلاح وانطباع على مكارم الأخلاق، فهو يرى بعيني رأسه انتهاك الحرمات وارتكاب الموبقات وقبح العادات وانتشار الظلم ومخالفة الحق وفُشُوّ الفظائع والتدابر، ولاحظ مع هذا أن هذا الرجل الذي يشعر بكل ما حوله شعورًا قويًّا حادًّا ويدركه إدراكًا جليًّا واضحًا وينكره إنكارًا شديدًا، ويود أن يغير هذا الحال إن استطاع إلى ذلك سبيلًا، لم يدرس وسائل إصلاح المجتمعات، ولم يتعلم طريق قيادة الجماعات ولم يتلق فلسفة النفسيات.
ثم قل لي بربك، ماذا يكون شعور هذا الرجل أمام ما يحيط به؟ وهو يعلم كما قلت لك ما يحيط به ولا يرضى عنه؛ لأنه لا يتفق مع فطرته وإدراكه ويود أن يغيِّره ويأخذ الناس بالإقلاع عنه؛ لأنه يلمس فساده ولا يجد وسيلة إلى ذلك ولا يعلمها، فكلما حاول الإرشاد افترقت أمامه السبل وتَشَعَّبَت بين يديه الطرق، لا شك أنك معي في أن هذا الرجل يحمل عبئًا من الضيق النفسي والحيرة الفكرية تنوء بحمله الجبال.
إذا عرفت هذا فاعلم أنه صورة مصغرة تقريبية لحال النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل بعثته فقد كان - صلى الله عليه وسلم - أزكى الناس فطرة وأقواهم حسًّا وشعورًا وعقلًا وتفكيرًا.
فهو أشدهم إدراكًا لما عليه فساد المجامع والأمم في عصره فطرةً لا تعليمًا، ثم هو يَوَدُّ من صميم فؤاده أن يصل إلى طريق لهدايتهم أو يعلم سبيلًا لإرشادهم، ثم هو أمي لم يقرأ ولم يكتب ولم يدرس فلسفة الإصلاح على أستاذ أو معلم، فأي ضيق نفسي كان ينتابه - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يَتَنبَّأ؟ ! وأي حيرة فكرية كانت تتوزع عقله الشريف قبل أن يُرسل؟ ! حتى أراد الله تبارك وتعالى أن يُريحه من عناء هذا العبء وأن يُرشده إلى أقوم طرق الإصلاح، فأنزل عليه وحيه وأرشده بقرآنه وألهمه السداد