تضمنت الآيات السابقة إيجاب القصاص ثم إيجاب الوصية، وجاءت هذه الآيات عقبها بإيجاب عبادة هي من أعظم أركان الإسلام، وهي الصيام، فقال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}.
وردت هذه الآيات في صيغة الخطاب مفتتحة بالنداء ووصْف المخاطبين بأكمل خصلة تقوم عليها السعادة في الدارين، وهي الإيمان، ليقبل الناس على ما يلقى إليهم من أمر هذه العبادة، ويضعوه موضع العناية بقدر ما يقتضيه إيمانهم وتقديرهم الشرف الذي اكتسبوه من خطاب رب العالمين. قال الحسن: إذا سمعت الله تعالى يقول {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فأرعِ لها سمعك، فإنها لأمر تؤمر به، أو نهي تنهى عنه.
والصيام في أصل اللغة كالصوم: الإمساك عن الفعل من نحو الأكل والمشي والكلام، وخصه بعض المفسرين بالإمساك عما تنازع إليه النفس. وحقيقته شرعًا: الإمساك بنية عن الأكل والشرب ومباشرة النساء من طلوع الفجر إلى مغرب الشمس. ومعنى {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}: فرض عليكم. وقد دل القرآن على بعض أحكامه، ودلت السنّة على سائرها.
{كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}.
معنى الجملة: أن الصيام كتب على من قبلنا من الأنبياء وأممهم، والتشبيه في قوله (كما كتب) يرجع إلى الوجوب، أي أن الله فرض عليكم الصيام مثل ما فرضه على من تقدمكم من الأمم. وحكمة التذكير بأن الصيام قد فرض على الأمم السابقة، تخفيف وقعه على النفوس، حيث إن الصائم يكفُّ نفسه عن كثير من الشهوات التي اعتاد التمتع بها، فإذا قيل له إن هذه العبادة قد فرضت على أمم من قبلنا. وأفهم السياق أنهم لم يهملوها. خف عليه أمرها، وأقبل على أدائها بنفس مطمئنة.