وكم كنا نود أن يلتزم الأستاذ دروزة، بالمنهج الذي أراد أن يسير عليه والذي خالف طرائق المفسرين جميعًا من أجله، وهو السير مع سياق الآيات وظروفها التي نزلت فيها. وهو الذي فسر السور حسب ترتيب نزولها لتمشي مع هذا المنهج ولكنه لسبب أو لآخر لم يلزم نفسه بشيء من هذا. ومنشأ اللبس عنده ناتج من مزج الآيات جميعها، مع قطع النظر إلى متقدمها ومتأخرها، والظرف الذي نزلت فيه الآية أو المجموعة من الآيات، فهو يأتي بآية البقرة {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ}[البقرة: ١٩٠] فيجعلها الأصل المحكم، الذي ينبغي أن ترد إليه آيات الجهاد جميعها مع أنه يعترف بأنها أول آية نزلت في القتال ومن تلك الآيات آيات سورة براءة، مع أنها آخر آيات أنزلت.
ويحاول الأستاذ أن ينتصر لرأيه هذا، بحجج كثيرة يخالف بها المفسرين تارة، والفقهاء واللغويين تارة أخرى. فهو مثلًا ينكر أن يكون معنى (الفتنة)(الشرك) في قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ}[البقرة: ١٩٣] مع أن كثيرًا من المفسرين، قال به، واستدل له، كما فعل العلّامة الآلوسي. والغريب أنه قد تكلف كل التكلف في تفسير آيات براءة، وفي تأويل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ... ".
والمتدبر لآيات الجهاد في القرآن، يدرك لأول وهلة أنها نزلت في ظروف مرحلية خاصة، ومناسبات متعددة الأسباب. والمستعرض لأقوال العلماء يجد أنهم أدركوا هذا المعنى إدراكًا تامًّا. فإن جمهورهم لم يقل بدخول النسخ في آيات القتال، فلم يقل أحد ممن يعول عليه ويشار إليه، بأن قوله تعالى:{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} منسوخ، أو بأن آية الممتحنة وآية النساء، اللتين مر ذكرهما. منسوختان ومع أن كثيرًا من الآيات التي ذكرها محل نظر، إلا أنه لم يورد هذه الآيات أبدًا. وهذا مذهب المحققين من العلماء كما ذكرت، وكما دل عليه الكلام الذي نقلناه آنفًا.