فكل نص من هذه النصوص القرآنية إذن، محكم غير منسوخ، حتمته ظروف خاصة، أما الأحكام النهائية، فهي الواردة في سورة البراءة، ومعنى هذا أن نصًّا ما، يمكن أن يصلح في حالة من حالات المسلمين شبيهة بالحالة التي نزل فيها، وهذا بالطبع لا يفقد سورة براءة أحكامها النهائية.
هذا ما فهمه المسلمون الأول، حينما انطلقوا في الآفاق مجاهدين في سبيل الله لكن واقع المسلمين الآن، والحملات التي تركز عليهم وعلى دينهم، جعلت الكثيرين من المحدثين، يتراجعون أمام هذه الضغوط، متلمسين الأسباب للدفاع عن مبدأ الجهاد، راكبين متن كل تأويل بعيد، لا لشيء إلا ليثبتوا أن الإسلام دين الإسلام، همه أن يرد عنه سهام الاعتداء فحسب.
العجيب أن المنادين بهذا الرأي المتحمسين له، لم يقولوه في زمن سارت فيه جحافل المسلمين في آفاق الأرض، وداسوا بسنابك خيلهم عروش الطواغيت وحطموا أسوار الباطل، وإنما جاء رأيهم هذا في زمن انتهكت فيه حرماتهم، وديست المقدسات، ولم يستح عدوهم والعالم من ورائه أن يطردهم مغتصبًا، دون حجة أو حكمة أو مداراة.
إن الجهاد الإسلامي لم يشرع من أجل الإكراه في الدين، ولا من أجل استعباد الآخرين وامتصاص دمائهم، وإنما شرعه الله لتحرير الإنسان الذي كرمه من كل ما يحول بينه وبين تلك الحرية والكرامة، وذلك بإخراجه من عبودية العباد حتى لا يكون لأحد سلطان عليه، وبعد هذا الإخراج، لا يرغمه على اعتناق عقيدته حيث لا إكراه في الدين، ولقد كان هذا المعنى واضحًا لدى الفاتحين الأولين. فهم حينما يخرجون، يدركون أنهم ما خرجوا من أجل غارة يغيرونها، بل من أجل نفوس يغيرونها. يقول أحدهم حينما مسألة رستم "ما الذي جاء بكم؟ " فيجيب "الله ابتعثنا لنخرج من شاء كان عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة".