{وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} اختلف أهل التأويل ... فقال بعضهم معناه: وعنده الحلال والحرام.
وقال آخرون معناه: وعنده جملة الكتاب وأصله.
وقال آخرون: هو الذكر.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: وعنده أصل الكتاب وجملته، وذلك أنه تعالى ذكره أخبر أنه يمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء، ثم عقب ذلك بقوله:{وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} فكان بينًا أن معناه: وعنده أصل المثبت منه والممحو وجملته في كتاب لديه (١).
وما كان أغناهم عن هذه الأقوال الكثيرة! ! فالمتأمل في سياق الآية الكريمة سباقًا ولحاقًا يدرك بكل يسر، ودون عناء أن الآية الكريمة تتحدث عن ثبوت رسالة سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأن الله يمحو ما يشاء من الرسالات السابقة ويثبت غيرها، ونتأمل الآيات الكريمة قبل هذه الآية ابتداء من قوله تعالى: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (٣٠) وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَال أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا ... وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (٣٨) يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (٣٩) وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (٤٠) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ... } [الرعد: ٣٠ - ٤٥]
فإن المتدبر لهذه الآيات قبل هذه الآية {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ} وبعدها، لا يرتاب في أن الآية الكريمة المراد بها نسخ الرسالات بعضها بعضًا، وهذه الآية شبيهة بقول الله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٦)} فقد ذهب أبو مسلم بن بحر وتبعه الرازي