ثانيًا: رأينا أن اختلافات المفسرين كلها أو جلَّها ترجع إلى إعمال الرأي ويذل الطاقة والاجتهاد في فهم الآية الكريمة، وقد تذكر أقوال كثيرة تكون كلها محتملة في تفسير الآية، صحيح أن هناك اختلافات ترجع إلى اللغة أو تعدد القراءات المتواترة، لكن هذا القسم قليل إذا قيس مع ما هو ناشيء عن الاختلاف في الرأي والاجتهاد، والأمر الذي ينبغي أن نؤكده هنا أننا لن نجد اختلافًا عند المفسرين يرجع إلى الحديث النبوي الصحيح؛ ذلك لأنه إذا صح الحديث عن سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فليس من الممكن أن يناقضه حديث صحيح آخر، حتى ما روي عن الصحابة وصح عنهم فإنه لا يتناقض كذلك، نعم قد تصح أكثر من رواية عن الصحابة أو عن أحد منهم، لكن يمكن الجمع بينها، ففي قول الله تعالى:{أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا}[الأنبياء: ٣٠].
روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن السماوات والأرض كانتا كتلة واحدة ففتقهما الله تعالى وفصل كل واحدة عن الأخرى، وهناك رواية أخرى عنه أن السماوات كانت رتقًا ففتقها الله بالمطر، وأن الأرض كانت رتقًا ففتقها الله بالنبات.
والروايات الكثيرة التي رويت عن الصحابة والتابعين جُلُّها كان الاختلاف فيها اختلاف تنوع، بمعنى أنه يمكن الجمع بينها كلها، وقد أشرت إلى هذه الحقيقة من قبل.
وهكذا ندرك أن أكثر الاختلاف ناشئ عن الرأي والاجتهاد المبنيين على أسس صحيحة، فليس كل صاحب رأي يقبل رأيه، وليس كل من ادعى الاجتهاد يسمى مجتهدًا، وللشافعي رحمه الله تعالى ورضي عنه في الرسالة كلام عال في هذا الموضوع ولمن بعده من العلماء كذلك.