للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عنايته بمراعاة الفاصلة، مقدمًا لها على كل اعتبار، فهو يرى مثلًا في قول الله. {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: ٤٦] أن التثنية إنما جاءت لمراعاة الفاصلة، وإلا فهي جنة واحدة.

وقوله: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} [البقرة: ١٦].

ربما قال القائل: كيف تربح التجارة وإنما يربح الرجل التاجر؟ وذلك من كلام العرب: ربح بيْعُك وخسر بيعُك، فحسن القول بذلك لأن الربح والخسران إنما يكونان في التجارة، فعلم معناه. ومثله من كلام العرب: هذا ليل نائم. ومثله من كتاب الله. {فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ} [محمد: ٢١] وإنما العزيمة للرجال، ولا يجوز الضمير المحذوف إلا في مثل هذاء فلو قال قائل. قد خسر عبدك، لم يجز ذلك، (إن كنت) تريد أن تجعل العبد تجارةً يُربح فيه أو يُوضَع لأنه قد يكون العبد تاجرًا فيربح أو يُوضَع (١)، فلا يعلم معناه إذا ربح هو من معناه إذا كان متجورًا فيه. فلو قال قائل: قد ربحتْ دراهمُك ودنانيرُك، وخسر بَزُّك ورقيقك، كان جائزًا لدلالة بعضه على بعض.

وقوله: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا .. } [البقرة: ١٧].

فإنما ضرب المثل -والله أعلم- للفعل لا لأعيان الرجال، وإنما هو مَثَل للنفاق فقال: مثلهم بهمثل الذي استوقد نارًا ولم يقل: الذين استوقدوا. وهو كما قال الله: {تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} [الأحزاب: ١٩] وقوله: {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان: ٢٨] فالمعنى -والله أعلم-: إلا كبعث نفس واحدة، ولو كان التشبيه للرجال لكان مجموعًا كما قال: {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون: ٤] أراد القيم (٢) والأجسام، وقال: {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ


(١) أوضع في تجارته (بضم الهمزة)، ووضع (كعنى وكوجل) خسر فيها.
(٢) (القيم) جمع قامة أو قيمة: وهي قوام الإنسان وقده وحسن طوله.

<<  <  ج: ص:  >  >>