للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد وجدناه يخص الكلمة القرآنية بعناية، وهو يبين لنا خصائصها وأسرارها، فالقرآن الكريم تختار فيه اللفظة، التي تناسب الموضع الذي جاءت فيه، فقد يشترك لفظان أو أكثر في معنى، ولكن أحدهما يكون أكثر دقة، فيذكر في التنزيل وهكذا فألفاظ القرآن مختارة منتقاة، وإن كان سيظن لأول وهلة بأن بعضها مترادف، إلا أن بينها من دقة الفروق ما يخفى على الكثيرين، حتى ذوي النظر، يقول: (وقد يستخف الناس ألفاظًا ويستعملونها، وغيرها أحق بذلك منها ألا ترى أن الله تبارك وتعالى لم يذكر في القرآن الجوع، إلا في موضع العقاب أو في موضع الفقر المدقع والعجز الظاهر، والناس لا يذكرون السغب ويذكرون الجوع في حال القدرة والسلامة، وكذلك ذكر المطر لأنك لا تجد القرآن يلفظ به إلا في موضع الانتقام، والأمة وأكثر الخاصة يفصلون بين ذكر المطر وبين ذكر الغيث، ولفظ القرآن الذى عليه نزل أنه إذا ذكر الأبصار لم يقل الأسماع، وإذا ذكر سبع سماوات لم يقل الأرضين، ألا ترى أنه لا تجمع الأرض على أرضين ولا السمع أسماعًا، والجاري على أفواه العامة غير ذلك، لا يتفقدون من الألفاظ ما هو أحق بالذكر وأولى بالاستعمال، وقد زعم الفراء أنه لم يرد ذكر النكاح في القرآن إلا في موضع التزويج) (١).

ولم تقف براعة الجاحظ ودقة فكره عند هذه القضية في اللفظة القرآنية، بل نجده يطلعنا على لطائف كثيرة لهذه اللفظة. من هذه اللطائف أنها قد تذكر اللفظة القرآنية لتسد مسدَّ ألفاظ كثيرة، فيستغني عن هذه الألفاظ جميعًا يقول: (وقد قال تعالى {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ} فقال لنبيه {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة: ٤] فاشتق لكل صائد وجارح وباز وصقر وعقاب وفهد وشاهين وزرق، ويئوبو وباشق وعناق الأرض من اسم الكلب) (٢).


(١) البيان والتبيين طبعة هارون جـ ١ ص ٢٠.
(٢) كتاب الحيوان طبعة هاررن جـ ٢ ص ١٨٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>