للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تلهث من غير أن تكون هناك إلا حرارة أجوافها والذي طبعت عليه من شأنها) فكأن الاعتراض الثاني قد مات سقطًا قبل أن يستهل ويمنح الحياة! هذا البسط في التفسير البياني قد يتحّول لدى الجاحظ إلى لمح وإشارة في بعض المواقف إذا لم يكن المجال مجال معارضة وحجاج، بل كان الأمر لا يعدو التقرير المؤيد بالشاهد، ولكل من الإسهاب والإيجاز موضعه المقبول في بابه، لأن المعارض في كثر أمره لجوج عنيد قد ينكر ضوء الشمس من رمد، فالحاجة إلى إفحامه تتطلب البسط والامتداد، أمّا غيره فحسبه أن يدرك من لمح الجاحظ ما يومئ إليه، بل عليه أن يتعدى الجاحظ إلى من جاء بعده ليرى كيف انتفعوا بإشارته السريعة في الحقل البياني فعكفوا عليها يمدون في أسبابها، ويفتقون من أكمامها حتى يفوح الورق الناعم بأمتع أرج، وبأشهى عبير، ومثال ذلك ما سطره البياني الكبير هي باب الكلام المحذوف حيث قال (١):

(ومن الكلام كلام يذهب السامع منه إلى معاني أهله وإلى قصد صاحبه كقول الله تبارك وتعالى {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} وقال: {لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى} وقال {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} وسئل المفسر عن قوله {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} فقال ليس فيها بكرة ولا عشى! وقال لنبيّه -صلى الله عليه وسلم- {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} قال: (لم يشك ولم يسأل).

فما تجد هنا آية ممّا ذكره الجاحظ إلّا أخذت نصيبها الكبير من المفسرين والبيانيين معًا، كل وفق منحاه! حتى غدت إشارات الجاحظ العابرة كإسهاب المطيل مورد علل ونهل، ومكان حظوة واحتفاء، وإن أديبًا يترك صداه القوي هى عقول تابعيه لجدير أن يحفظ له مكانه الجهير في قمة كل طود تسنم ذراه (٢).


(١) البيان والتبيين جـ ٢ ص ٢٨٩.
(٢) خطوات التفسير/ محمد رجب البيومي ص ٨٢ - ٩١.

<<  <  ج: ص:  >  >>