للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وشبهته في ذلك تتلخص في أمرين: أحدهما أن المشبه وهو من أعطي شيئًا فلم يقبله، لا يشبه بكلب إن حملت عليه نبح أو تركته نبح لخفاء وجه الشبه بين الطرفين، وثانيهما أن لهاث الكلب لا يكون إلا من الحر والعطش والتعب، والكلب هنا لم يعانِ شيئًا من نحو هذه الثلاثة فلم عدل القرآن عن النباح المتوقع ذكره إلى اللهاث؟ ! .

هذان هما الأمران اللذان دفعا بالشبهة إلى المعترض فاختلجت في نفسه اختلاجًا صوّره الجاحظ وافيًا دقيقًا دون انتقاص فإذا تم له أن يأتي بالاعتراض على أوضح وجوهه، عمد إلى المأخذ الأول فذكر أن قول الله عز وجل في ختام الآية الكريمة {ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} يَدلّ على أن المشبّه ليس هو من أعطي شيئًا فلم يقبله كما تصوّر المعترض ولكنه من كذب بالآيات حين توالت دلائلها الصادقة عليه، والتكذيب -بالتضعيف- لا يكون مرة واحدة وإنما هو إمعان في الرفض وإلحاح في الدفع مهما وضحت الدلائل وظهر اليقين، ومن يتوالى رفضه المكذب لكل دليل يقدّم إليه مع طلبه إياه، وحرصه عليه فهو شبيه بالكلب إذ يعطي الجد والجهد من نفسه في كل حالة من الحالات ثم يرجع كما كان نابحًا غير مستريح! فالمكذب إذن معاند لا يزال يلح، قدمت له الإقناع بالدليل أو تركته، ككلب في طريقك يقدم عليك نابحًا! ويتركك نابحًا! والتشبيه بعد ذلك من الدقة والبراعة بحيث يسكت كل لجاج! أمّا المأخذ الثاني ففي قول الله عز وجل: {إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} إذ توهم المعترض أن اللهاث. لا يكون من غير الحر والعطش والتعب! والكلب النابح في الطريق لا يعاني شيئًا من ذلك فيلهث، وقد قضى الجاحظ عليه حين قال (والكلب إذا أتعب نفسه في شدة النباح مقبلًا عليك ومدبرًا عنك لهث واعتراه ما يعتريه عند التعب والعطش، وهو أمر يدركه الأطفال قبل الرجال، فكيف جاز لمن يجد في نفسه الجرأة على نقد التشبيه أن يجهله، بل إن الجاحظ أستاذ علم الأحياء في عصره ليمهكنم خفيًا بالمعترض حين يقول: (على أننا ما نرمي بأبصارنا إلى كلابنا وهي رابضة وادعة إلا وهي

<<  <  ج: ص:  >  >>