للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وسأكتفي هنا بنقل تفسير آية من آيات الكتاب العزيز، ومنه ندرك الأبواب التي كان يلج منها، ومقدار العمق الذي كان يتمتع به، وهو يفسر القرآن. هذه الآية هي قول الله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ .. } الآية [آل عمران: ١٤]. يقول: (راجعت تفسير الشيخ محمد عبده وتفسير الألوسي لهذه الآية، فلم أر فيهما ما يهدي إلى السر. والمفسرون جميعًا متفقون على أن (حب الشهوات) يراد به المشتهيات فالمعنى: (زين للناس المشتهيات من النساء .. الخ. وهذا يجعل الآية موضع نقد، ويذهب بها التعبير (بحب الشهوات) وإعجاز هذه الآية هو في لفظة حب الشهوات، فلو قال المشتهيات أو الشهوات، أو حب النساء لما كان ذلك شيئًا. وللشهوات وظائف طبيعية في الناس، فكونها زينت للناس أمر لا يُعنى له، وليس فيه جديد، ولكن (تزيين حبها) هو السر، لأن حبها هو سبيل الحرص عليها، والإكثار منها، كالذي يجد مالًا ينتفع به، فالمال في نفسه منفعة، وليس في ذلك عجيب، ولكن الذي يبتلى (بحب) المال، تنقلب فيه هذه المنفعة ضررًا، فيبخل، ويبتلى بالحرص ثم يبتليه الحرص على المال بمحق حياته كلها، فالشأن إذًا ليس في المشتهيات، ولا في الشهوات، ولكن في (حب الشهوات) ثم إن حب الشهوات متى كان سببًا في الحرص عليها، والإكثار منها فهو خطأ وضرر، فإذا (زين) فكأن هناك ثلاث درجات الشهوة وهي عمل طبعي، ثم حب الشهوة، وهذه إضافة جديدة من العقل تزيد فيها، ثم تزيين هذا الحب، وهي إضافة ثانية تزيد في الزيادة وتضاعف الخطأ، وعلى هذا تلحق الشهوات في هذا الترتيب، بالحد الخارج عن العقل، وهذا الحد هو أول الجنون، كما يشاهد في ذهاب أثر العقل وضعف حكمه عند (تزيين شهوة محبوبة) بحيث لا يبقى للعقل حكم، ولا حكمة مع هذا التزيين، وجعلت (زين) مبنية للمجهول، لأن بعض هذا محبوب محمود، فهو من زينة الله ويدخل في قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} وبعضه مذموم مكروه، فهو من تزيين الغرائز الفاسدة، وبعضه حمق وجنون، فهو من تزيين الشيطان، والغرض من الآية تجاوز الحد المعقول من

<<  <  ج: ص:  >  >>