الشهوات الدنيا، فإن تجاوزه يجعل الدنيا هي الغاية مع أنها وسيلة فقط، ولهذا قال:{ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ثم إنه قال: (حب الشهوات) بالجمع ولم يقل الشهوة. فتكون (الشهوات) مختلفة متباينة، تقدر كل واحدة باعتبارها الخاص في الأصناف التي وردت في الآية. فالشهوة للنساء غيرها من البنين. وهذه غيرها من المال، وهذه غيرها من الخيل المسومة .. الخ. فكل واحدة ذات شأن خاص في النفس كما هو مشاهد، ولكن للجنون بها كلها متى (زين حبها في النفس) شيء واحد. وانظر الحكمة العجيبة في الترتيب، فالنساء شهوات من الغريزة والعاطفة، والبنين شهوات من العاطفة، والنفس، والمال الكثير من النفس فقط، والخيل المسومة والأنعام والحرث، هذه الثلاثة تارة أجزاء من المال، وتارة أجزاء من عاطفة النفس، كما يغرم بالخيل بعض الناس، أو بالأنعام أو بالزراعة. ولذلك جاءت في الآية بعد النساء والبنين، لأنها لاحقة بالغريزة والعاطفة والنفس.
ويدخل في الخيل المسومة كل ما يقتنى للمباهاة والزينة، أو لأغراض القوة على إطلاقها، ومنه السيارات والطيارات الخ .. ويدخل في الأنعام كل ما يقتنى للتجارة والكسب. وفي الحرث كل ما يقتنى للاعتمال والإيجاد، ومنه المصانع والمعامل الخ .. فإذا حققنا هذا، وجدنا هذه الأبواب جامعة لكل الشهوات الناشئة من جميع قوى الجسم الإنساني والنفس الإنسانية.
أما ما كان خاصًّا بشهوات العقل، فلم يدخل في الآية، وهذا من أعجب إعجازها، لأن أمور الفنون والعلوم (لا تزين) إلا لفريق محدود من الناس، أي لا يزين حب الشهوات منها. وهذا الفريق عادة هم النوابغ العبقريون، وهؤلاء العبقريون في الحقيقة، لا يجدون من العلوم والفنون متاع الحياة الدنيا، ولكن مصائب الحياة الدنيا .. ) (١).
(١) رسائل الرافعي جمع وترتيب محمود أبو رية ط عيسى البابي الحلبي ١٣٦٩ هـ ص ٢٣٣، وما بعدها.