للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولئن كنا نحن نعلم أنه الروح الأمين، فإنها هي لا تعلم إلا أنه رجل، وهنا يتمثل الخيال تلك الفتاة الطيبة البريئة، ذات التقاليد العائلية الصالحة، وقد تربت تربية دينية، وكفلها زكريا، بعد أن نذرت لله جنينًا.

هذه هي الهزة الأولى.

(قال: {إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا} [مريم: ١٩] ثم ليتماثل الخيال مرة أخرى. مقدار الفزع والخجل، وهذا الرجل الغريب، الذي لم تثق بعد بأنه رسول ربها، فقد تكون حيلة فاتك يستغل طيبتها - يصارحها بما يخدش سمع الفتاة الخجول، وهو أنه يريد أن يهب لها غلامًا، وهما في خلوة وحدهما.

وهذه هي الهزة الثانية.

ثم تدركها شجاعة الأنثى تدافع عن عرضها {قَالتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} [مريم: ٢٠] هكذا صراحة، وبالألفاظ المكشوفة، فهي والرجل في خلوة. والغرض من مباغتته لها قد صار مكشوفًا، فما تعرف هي بعد كيف يهب لها غلامًا، وما يخفف من روع الموقف أن يقول لها، {إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ} فقد تكون هذه خدعة فاتك كما قلنا، فالحياء إذن ليس يجدي، والصراحة هنا أولى.

{قَال كَذَلِكِ قَال رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا}.

ثم ماذا؟

هنا نجد فجوة من فجوات القصة، فجوة فنية كبرى، تترك للخيال تصورها، ثم تمضي القصة في طريقها، لنرى هذه العذراء المسكينة في موقف آخر أشد هولًا.

{فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (٢٢) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالتْ يَاليْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا}.

وهذه هي الهزة الثالثة.

<<  <  ج: ص:  >  >>