في هذا الباب كثيرة، أثبتتها التجارب، وإذا اعتبرنا بها في أمر ولادة المسيح نقول إن مريم لما بشرت بأن الله تعالى سيهب لها ولدًا بمحض قدرته، وهي ما هي عليه من صحة الإيمان وقوة اليقين، انفعل مزاجها بهذا الاعتقاد انفعالًا، فعل في الرحم فعل التلقيح، كما يفعل الاعتقاد القوي في مزاج السليم فيمرض أو يموت، وفي مزاج المريض فيبرأ. وكان نفخ الروح الذي ورد في سورة أخرى متممًا لهذا التأثير.
- الثاني: وهو أقرب إلى الحق وإن كان أخفى وأدق:
ويقدم لهذا الوجه مقدمة ملخصها أن المخلوقات قسمان: أجسام كثيفة وأرواح لطيفة، وأن اللطيفة تؤثر في الكثيفة. ويمثل للطيفة بالريح والكهرباء والماء، وهذه أرواح تفعل الأعاجيب، مع أنها غير مدركة ولا مريدة فكيف بالأرواح العاقلة المريدة. فلا شك أنها أعظم أثرًا، ثم يقول:(إن الله المسخّر للأرواح المنبثقة في الكائنات، قد أرسل روحًا من عنده إلى مريم فتمثل لها بشرًا، ونفخ فيها فأحدثت النفخة التلقيح في رحمها، فحملت بعيسى عليه السلام، وهل حملت إليها تلك النفخة مادة أم لا؟ الله أعلم)(١).
ويقول عند تفسير قوله تعالى:{أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ}[آل عمران: ٤٩].
(نقف عند لفظة الآية، وغاية ما يفهم منها أن الله تعالى، جعل فيه هذا السر، ولكن لم يقل إنه خلق بالفعل، ولم يرد عن المعصوم أن شيئًا من ذلك وقع. وقد جرت سنّة الله تعالى، أن تجري الآيات على أيدي الأنبياء، عند طلب قومهم لها، وجعل الإيمان موقوفًا عليها، فإن كانوا سألوه شيئًا من ذلك فقد جاء به. وكذلك يقال في قوله:{وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ}[آل عمران: ٤٩]. فإن قصارى ما تدل عليه العبارة، أنه