للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

من جوانبها، نياق وجمال مصفرة اللون أو مسودته، ترعى وتتناول بمشافرها أوراق الشيح والقيصوم، تارة هنا وطورًا هناك -إذا وقع نظرك على ذلك، لمحت من بعد في آن واحد أجسامًا صغيرة حمراء أو صفراء أو سوداء، تتراءى لك من خلال الكلأ والعشب الأخضر، هذه البيوت هنا وهذه الجمال هناك، في مشهد واحد، وإذ ذاك لا تعود تستبعد تشبيهه الشرارات الجهنمية، بتلك الأبيات والجمالات، ولا تستغرب قرنهما حقًّا في الذكر، بل تستحلي ذلك وتعجب به، وأمر هذه التشابيه ووقعها في النفوس، وقربها أو بعدها من الأذواق، مرجعه الألفة والاعتياد، ومقدار تأثر الحواس والمشاعر بها، وهذه منشأ خطأ الكثيرين، لا سيما الذين يجهلون أحوال العرب، وأطوار معايشها وأساليب حياتها، في حكمهم على القرآن وبلاغته ... يرونه يصفُ وصفًا، أو يطلق قولًا، أو يورد تشبيهًا أو يحكي قصة غير مألوفة لنا اليوم، ولا مما جرينا عليه في أساليب كلامنا، ولا مما اعتدنا أن نشعر به في حياتنا وأطوار اجتماعنا، ويكون السبب في قصور حكمهم مخالفة ما نحن عليه لما عند أولئك العرب المخاطبين بالقرآن الذي روعي في آياته وأساليب خطابه، ما اعتادوه وألفوه هم، كما قال ابن عباس في تشبيهه شرر الناس بالقصور: (إنه وارد على ما هو المعتاد في بلاد العرب، من جعل قصورهم قصيرة السمك، جارية في هيئتها وشكلها مجرى الخيام)، ولعل ابن عباس إنما قال هذا، بعد أن رأى قصور الشام والعراق، التي يستحلي شعراؤهم أن يشبهوها -منذ يرونها مبثوثة بين المروج- بالدرّ بين الزبرجد.

قال شاعرهم:

لاحت قراها بين خضرة مرجها. . . كالدرّ بين زبرجدٍ مكنون (١)

هذا هو الشيخ عبد القادر في أسلوبه، وهو يصدر المعاني كأنما قلمه ريشة فنان، ولكن هذا لا يُكتفى به، ليعطي صورة صحيحة عن مفسر القرآن. وإذا


(١) تفسير جزء تبارك ص ٢٩١ - ٢٩٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>