أما الأمر الثاني الذي من أجله كانت الدهشة من كلام الأستاذ الأكبر رحمه الله، فهذا المثل الذي جاء به ليثبت ما أراد، وهو مسألة الصفات، حيث يقول: إن العلماء حينما تفقهوا بالفلسفة أولوا هذه الآيات، ونحن نتساءل ما موقف من لم يتفقه بالفلسفة ابتداء من الصحابة رضوان الله عليهم، هل كانت هذه الآيات توهم عندهم التشبيه؟ وهل فهموا ذلك منها، واستمر هذا حتى جاءت الفلسفة والمتفلسفون، فصححوا لنا هذا؟ اللهم لا وألف لا! هذا فضلًا على أنه لا صلة بين مسألة الصفات، وبين ما سئل عنه الأستاذ.
وهناك مسألة أخرى عرض لها الأستاذ الأكبر، لا تقل خطورة في ذاتها ونتائجها عن سابقتها، وأعني بها ترجمة القرآن، فلقد أخذت هذه المسألة اهتمامًا كبيرًا لدى العلماء قديمًا وحديثًا، والقرآن كما نعلم كتاب العربية الأول، وللعربية خصائص لا توجد في غيرها من اللغات، وترجمة القرآن بنصه من الأمور المتعذرة، التي ليست في طاقة البشر، ولكن الأستاذ كان لا يرى محظورًا في ترجمة القرآن، أو على الأقل ترجمته بدلالات معانيه الأولية، يقول الأستاذ:(أما إمكان الترجمة فهو أمر هين يدركه من لا يعرف (اللغة العربية ... -وقد تستطيع اللغة المنقول إليها، أن تؤدي بعض الخصائص في اللغة العربية، وتنهض لأداء الدلالات التابعة، يعرف هذا من عاين نقل العلوم والفنون من لغة إلى أخرى، ومن يدرك فقه اللغات وخواص استعمالها ... وإذا كان الأمر هكذا، كان ادعاء إنَّ القرآن الكريم كله لا يمكن ترجمته ادعًاء خاطئًا، بل الحق أن يقال: إنه يمكن ترجمته كله من ناحية الدلالات الأصلية، وتستحيل ترجمته من ناحية الدلالات التابعة)(١).
وكأن الذي حدا به إلى هذا اعتقاده بعالمية القرآن وتيسيره للناس، ولكن هذا ليس مسوغًا لترجمة القرآن نفسه، بل يمكن أن تترجم معانيه، أما القرآن فيبقى كما
(١) بحث في ترجمة القرآن الكريم وأحكامها، الشيخ المراغي ص ٧٠٦، مطبعة الرغائب سنة ١٣٥٥ هـ-١٩٣٦ م وهو بحث له فيه آراء غريبه بل شاذة.