ولما كان هذا النبأ عن شريعة اليهود من الأنباء، التي لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا قومه يعلمون منها شيئًا، وكان مظنة تكذيب المشركين له، لا يؤمنون بالوحي، ومظنة تكذيب اليهود له بأن الله لم يحرم ذلك عقوبة بغيهم وظلمهم، أكده فقال:{وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} أي وإنّا لصادقون في هذه الأخبار عن التحريم وعلته، لأن أخبارنا صادرة عن العلم المحيط بكل شيء، ولأن الكذب محال علينا، لأنه نقص فلا يصدر عنا.
{فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} هذا الخطاب إما لليهود وهو المروي عن مجاهد والسدي، وإما لمشركي مكة.
فعلى الأول يكون المعنى -فإن كذبك اليهود، وثقل عليهم أن يكون بعض شرعهم عقابًا لهم على ما كان من بغيهم على الناس، وظلمهم لهم ولأنفسهم، واحتجوا على إنكار كونه عقوبة بكون الشرع رحمة من الله، فأجبهم بما يدحض هذه الشبهة، بأن رحمة الله واسعة حقًّا، ولكن ذلك لا يقتضي أن يرد بأسه ويمنع عقابه عن القوم المجرمين، فإصابة الناس بالمحق والشدائد عقابًا لهم، على جرائم ارتكبوها قد تكون رحمة بهم، وقد تكون عبرة وموعظة لغيرهم لينتهوا عن مثلها، وهذا العقاب من سنن الله المطردة في الأمم، وإن لم يطرد في الأفراد.
وعلى الثاني يكون المعنى -فإن كذبك المشركون فيما فصلناه من أحكام التحليل والتحريم، فقل لهم ربكم ذو رحمة واسعة، ولا يعاجلكم بالعقوبة على تكذيبكم، فلا تغتروا به، فإنه إمهال لكم لا إهماله لمجازاتكم، وفي هذا تهديد لهم ووعيد، إذا هم أصروا على كفرهم وافترائهم على الله، بتحريم ما حرموا علي أنفسهم، كما أن فيه إطماعًا لهم في رحمته الواسعة، إذا رجعوا عن إجرامهم، وآمنوا بما جاء به الرسول فيسعدون في الدنيا بحل الطيبات، وفي الآخرة بالنجاة من النار ودخول الجنات) (١).