للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بالورود والرياحين، ولم تُسلمِ العربُ لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم -وهم أقرب الناس إليه - بل آذوه واتهموه، وأخرجوه وحاربوه، وعاش والمؤمنون الأوائلُ معه في مكة فترةً عصيبةً، واستشهد بعضهم تحت وطأةِ التعذيب، وفرَّ بعضُهم بدينه تاركًا أهله ووطنه وأمواله، وبقيت آثارُ التعذيب في أجسادِ بعضهم تحكي ظروف المحنة، وتُعتبرُ أصدق لسانٍ يُعبر عنها: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (١). ويكفي من ذلك أن تعلم ما رواه ابن سعدٍ في «طبقاته»، وابن ماجه في «سننه»: أن خباب بن الأرت رضي الله عنه جاء يومًا إلى عمرَ رضي الله عنه فأدناه من مجلسه وهو يقول له: لا أحدَ أحقَّ بهذا المجلسِ منك إلا عمار، فجعل خبابٌ يُري عمرَ آثارًا بظهره مما عذبه المشركون (٢).

أما بلالُ بنُ رباح رضي الله عنه فأخبارُه في البلاء والصبر أشهرُ من أن تذكر، ويكفي أن أبا بكر رضي الله عنه حين جاء ليشتريه وجده مدفونًا بالحجارة، كما رواه ابن أبي شيبة وغيره بإسناد صحيح (٣).

ومع هذه الشدائد والمحن التي مرت بالمسلمين كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم واثقًا بنصر ربِّه، متفائلًا بنصرة دينه والمسلمين، حتى وإن لم يملك للمسلمين حينها حلًا عاجلًا لِمَا هُمْ فيه من بلاءٍ ومحن، ودونك حديث البخاري فتأمله واعقل ما فيه من شدةٍ وما يحمله من بشرى وتفاؤل ونهي عن الاستعجال في النتائج؛ يقول خبابٌ رضي الله عنه: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسدٌ بردةً له في ظل الكعبة، قلنا له: ألا تستنصرُ لنا؟ ألا تدعو لنا؟ قال: «كان الرجلُ فيمن قبلَكُم يُحفر له في الأرض


(١) سورة البروج: الآية ٨.
(٢) «الطبقات» ٣/ ١٦٥، صحيح سنن ابن ماجة: ١/ ٣١.
(٣) سير أعلام النبلاء ١/ ٣٥٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>