للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بل بلغ في عبادته وذله لربه وخشوعه بين يديه ما حكاه سبط ابن الجوذي قال: حكى لي نجم الدين بن سلام عن والده أن الفرنج (النصارى) لما نزلت على (دمياط) ما زال نور الدين عشرين يومًا يصوم ولا يفطر إلا على الماء، فضعف وكاد يتلف. وكان مهيبًا ما يجسر أحد يخاطبه في ذلك، فقال إمامه يحيى: إنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم يقول: يا يحيي بشر نور الدين برحيل الفرنج عن دمياط، فقلت: يا رسول الله! ربما لا يصدقني، فقال: قل له: بعلامة يوم حارم. وانتبه يحيى، فلما صلى نور الدين الصبح وشرع يدعو، هابه يحيى، فقال له: يا يحيى تحدثني أو أحدثك؟ فارتعد يحيى وخرس فقال نور الدين: أنا أحدثك، رأيت النبي صلى الله عليه وسلم هذه الليلة وقال لك كذا وكذا، قال: نعم، فبالله يا مولانا ما معنى قوله: بعلامة يوم حارم؟ فقال نور الدين: لما التقينا بالعدو خفت على الإسلام، فانفردت ونزلت ومرغت وجهي على التراب، وقلت: يا سيدي: من محمود في البين، الدين دينك، والجند جندك، وهذا اليوم أفعل ما يليق بكرمك، قال: فنصرنا الله عليهم (١).

إخوة الإسلام كان ليث الإسلام والبطل الهمام نور الدين محمود صادقًا مع نفسه ومع ربه، لا يأكل الحرام ولا يشربه ولا يلبسه ولا غرابة أن تستجاب له الدعوة، بل ورد في سيرته أنه يأكل من كسب يده، وكانت له عجائز فكان يخيط الكوافي، ويعمل السكاكر فيبعنها له سرًا ويفطر على ثمنها (٢).

وخلاصة القول فهو كما قال الذهبي: كان دينًا نقيًا لا يري بذلك الأموال إلا في نفع، وما للشعراء عنده نفاق، وقد اصطبغت رعيته بصبغته كما قال الشاعر:


(١) سير أعلام النبلاء ٢٠/ ٥٣٨.
(٢) المصدر السابق ٢٠/ ٥٣٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>