للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عباد الله، ومن ماء السماء إلى ماء الأرض يقص علينا القرآن عجائب قدرة الله {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} (١). فالحلو منها كالأنهار والعيون والآبار، قاله ابن جُريج واختاره ابن جرير، وقال ابن كثير: وهذا المعنى لاشك فيه، فإنه ليس بحر ساكن وهو عذب فرات .. ، أما الملح الأُجاج فهو هذه البحار والمحيطات الكبيرة في المشارق والمغرب، وهذه البحار حين أراد الله أن تكون ساكنة لا تجري، بل تتلاطم أمواجها وتضطرب، أو يحصل فيها المد والجزر بقدرة الله، وهي ثابتة في أماكنها .. حين أراد الله لهذه المياه الغامرة لجزءٍ كبيرٍ من سطح الأرض أن تكون كذلك قدّر- وله الحكمة البالغة- أن تكون مياهها مالحةُ ... أتدرون لماذا؟ قال أهل العلم: خلقها الله مالحة لئلا يحصل بسببها نتن الهواء فيفسد الوجود بذلك، ولئلا تجوى الأرض بما يموت فيها من الحيوان، ولما كان ماؤها ملحًا كان هواؤها صحيحًا وميتتها طيبة (٢) .. أليس ذلك تقدير العزيز العليم؟ بل قيل في حكمة الله وتقديره لعدم اختلاط البحرين: أنّ مجاري الأنهار، غالبًا، أعلى من سطح البحر، ومن ثَمَّ فالنهر العذبُ هو الذي يصبّ في البحر الملح، ولا يقع العكس إلا نادرًا، وبهذا التقدير الدقيق لا يطغى البحر، وهو أضخم وأغزر، على النهر الذي منه الحياة للناس والأنعام والنبات، فتبارك الله أحسن الخالقين (٣).

أيها المسلمون، وثمة ماءٌ ثالث هو أعجبُ من ماء السماء وماء البحار .. إنه ماء الحياة ... إنه الماء المهين الذين ينشأُ منه البشر أجمعون، وتنتشر فيه الحياة والأحياء، وتأملوا القدرة الإلهية في قوله: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ


(١) سورة الفر قان، الآية: ٥٣.
(٢) تفسير ابن كثير ..
(٣) الظلال.

<<  <  ج: ص:  >  >>