للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكذلك تلتقي كلمات الصالحين مع كلمات الأنبياء والمرسلين، عليهم السلام، وكلها الثقة بالله، والتوكل عليه وحده، والاستغناء بما عنده وأعطاه دون أُعطيات الناس وهداياهم، وكذلك يظهر لك توكل ذي القرنين، واعتماده أساسًا على الله {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (١).

ثم شرع ذو القرون في بناء السد، وكان عملاً جبارًا، وتخطيطًا رائعًا، فهو أولاً يطلب من هذه الأمة المشاركة بمجهودها العضلي، وما تملكه من آلات البناء، ثم يطلب قطع الحديد حتى إذا حاذى به رؤوس الجبلين طولاً وعرضًا قال: انفخوا: أي أججوا عليه النار، ولك أن تتصور حجم وضخامة هذه النار التي يلزمها صهر هذه الأطنان من الحديد في هذا الممر الشاهق الارتفاع.

ولما كانت هذه المجموعة مشغولة بجمع قطع الحديد وصهرها، فهناك مجموعة أخرى تجمع النحاس، وتذيبه في القدور. فلما تم صهر الحديد في الممر، وتم صهر النحاس في القدور- أو في أي مكان آخر- جاءت المرحلة الأخيرة من مراحل بناء السد {قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً} والقطر كما قال ابن عباس وغيره: النحاس المذاب، فأمرهم بصب النحاس المصهور المذاب على الحديد المذاب فتخلل النحاس وسط الحديد واختلطا وصارا معدنًا واحدة قويًّا متينًا ثم تُركا حتى جُمدا، فصار سدًا منيعًا عجيبًا مدهشًا، وإذا أردت أن تعلمَ مرة أُخرى علمَ ذي القرنين، وتُدرك حجم تمكينه في الأرض، وتفقه معنى قوله تعالى: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً} فاقرأ كتابًا متخصصًا في الصناعة الحديثة، وقف على ما انتهى عليه عالم اليوم بمصانعه الضخمة، وآلياته الجبارة، وتقنياته المقدمة، وستدرك أَنّ ذا القرنين، بما علمه الله، سبق هذه الصناعة بقرون، وعلمه الله ما لم يعلمه غيره إلا بعد آلاف السنين.


(١) سورة الطلاق، الآية: ٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>