للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإن المرء ليعجب من هذه الواقف في أحداث الهجرة، فهو من جانب يعجب لتضحية أبي بكر وآل أبي بكر في سبيل خدمة الرسول، صلى الله عليه وسلم، بكل ما يملكون من المال أو الولد، والموالي كلهم يُسخَّرون لخدمة الدعوة، وكلهم يشرف بخدمة نبي الهدى والرحمة، ولكل دوره الذي يقوم به، ولا غرو في ذلك، ولا غرابة، فالصديق هو صاحب الرسول، صلى الله عليه وسلم، الأول، وهو الذي قال عنه محمد، صلى الله عليه وسلم: «لو كنتُ متخذًا خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً) وأبو بكر هو صاحب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في الغار، كما نزل بذلك القرآن الكريم: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ... } (١)، وبكل حال فما موقف أبي بكر في الهجرة إلا نموذج لمواقف الإيمان والتضحية المشهودة للصديق، رضي الله عنه وأرضاه، وحشرنا في زمرته، والصالحين من عباد الله.

ومن جانبٍ آخر، يعجب المرء أشدّ العجب، وهو يقرأ هذا الحدَث في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ... فلماذا يأتي الرسول، صلى الله عليه وسلم، إلى بيت أبي بكر وهو مخفٍ لشخصه وفي وقت لم يكن من عادته، هو، وربما غيره، أن يأتي فيه؟ ولماذا يخرج، هو وصاحبه، إلى جبال مكة الوعرة، ويختارا منها غارًا موحشًا مظلمًا؟ فيستتران فيه عن أعين الناس، ويختفيان فيه عن الطلب؟ ألهما جرم أو ذنبٌ يحاولان بسببه الانزواء عن الناس، وهما دعاة الهدى والرحمة ... ؟ وهل يجوز أن يُطَارَد الأنبياء والصديقون، ويُضطروا إلى هذه الألوان من الجهاد والصبر والتضحية؟

إنّ وراء ذلك كله كيدًا مدبَّرًا، ومكرًا ساحقًا- ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله- كشف الله خيوطه، وفضح أصحابه بقوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (٢).


(١) سورة التوبة، الآية: ٤٠.
(٢) سورة الأنفال، الآية: ٣٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>