فقد كانت الفئة المحايدة حينئذ تنقسم في حقيقتها أقساماً، بعضها وافق عين الصواب، وبعضها حاد عن الجادة ووضع قدمه على طريق أوله الحياد وآخره الضلال، وذلك بحسب الدوافع الاعتقادية لموقف كل منهم.
وأصل هذا التفاوت أن الموقف العام نفسه يعد فريداً في التاريخ، فليس هناك ما يمكن أن يشبهه من الخلافات الدينية أو السياسية في غير هذا الجيل المصطفى المختار.
وذلك أن العادة في مثل هذه الخلافات أن الحياد ليس إلا موقفاً سلبياً يمليه توازن المصالح أو التردد والشك، ولكننا هنا أمام صورة فذة يكون فيها الحياد - إن أسميناه كذلك - هو الموقف الإيجابي الذي يحتل مركز "الأفضلية" بحكم النصوص، في حين يتقاسم الطرفان المتنازعان مركزي " الفاضل والمفضول".وإذا كان طرفا النزاع هما أهل الشام وأهل العراق- وكلاً آتاه الله فضلاً- فإن الطائفة "الفضلى" هي تلك المجموعة من كبار الصحابة رضي الله عنهم الذين أمسكوا عن الفتنة ولم يكونوا يرون السيف بين المسلمين أصلاً (١).
وليس إمساكهم مجرد حياد سلبي (وهو ما ينطبق على موقف المرجئة فيما بعد) بل هو موقف إيجابي شرعي يستند على النصوص الثابتة.
وهذه الحقيقة غابت عن أذهان بعض العلماء - لا سيما من فقهاء العراق ومن تبعهم، وكذا بعض أصحاب الأهواء قديماً- ثم تلاهم من تلاهم من الحاقدين وجهلة الباحثين المحدثين، الذين زادوا بأن نسبوا الصحابة للإرجاء أو نسبوا المرجئة للصحابة.
ولكن- للإنصاف- لا بد أن نذكر سبب خطأ أولئك العلماء- وهو سبب كثيراً ما يقع فيه الباحثون ألا وهو "التعميم"، ولو استخدمنا الاصطلاحات المنطقية لقلنا إن هؤلاء جعلوا "المحمول موضوعاً والموضوع محمولاً" فانقلبت القضية وكذبت.
فإن قضية: إن "المرجئة ممسكون عن الفتنة" صادقة، فإذا أصبحت القضية "كل الممسكين عن الفتنة مرجئة" صارت كاذبة.
ولذلك كان لزاماً علينا أن نفصل أقسام المحايدين لنرى أن هذا الحكم إنما ينصب على بعضهم لا على الجميع:
١ - الفئة الأولى:
بعض كبار الصحابة وأجلائهم رضي الله عنهم مثل: سعد بن أبي وقاص, وعبد الله بن عمر, وأبي هريرة, وزيد بن ثابت, وأسامة بن زيد, ومحمد بن مسلمة، وغيرهم.
وقد آثرنا- إجلالاً منا لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم واحتساباً في الذب عنهم- أن نفردهم بمبحث مستقل تال.
٢ - الفئة الثانية:
بعض سكان الأطراف والمرابطين على ثغور الجهاد، وهؤلاء كانوا يجالدون الأعداء ويفتحون الأمصار فما شعروا إلا والنبأ ينزل عليهم بمقتل أمير المؤمنين عثمان كالصاعقة، ثم فوجئوا بما تلاه من أحداث فما استطاعوا أن يستبينوا رأياً فيتبعوه أو يرجحوا طرفاً فيوالوه، فآثروا مسالمة الفريقين المتقاتلين والركون إلى حياد لا حيلة لهم في قبوله.
وعن هؤلاء يقول الحافظ ابن عساكر: إنهم هم الشكاك الذين شكوا، وكانوا في المغازي، فلما قدموا المدينة بعد مقتل عثمان- وكان عهدهم بالناس وأمرهم واحد ليس بينهم اختلاف، فقالوا: تركناكم وأمركم واحد ليس بينكم اختلاف، وقدمنا عليكم وأنتم مختلفون.
فبعضكم يقول: قتل عثمان مظلوماً وكان أولى بالعدل وأصحابه.
(١) إن ترجيحنا لموقف الممسكين عن الفتنة وتفضيلهم لا يعني أن كل فرد منهم هو أفضل من كل فرد في معسكر الطائفتين – لا سيما وعلي أفضل الأمة كلها حينئذ – ولكن موقفهم هو أفضل المواقف، وقد يتخذ المفضول في قضية معينة موقفا أفضل من موقف الفاضل، وليس في الأمة يومها بعد علي أفضل من سعد ابن أبي وقاص وقد كان من الممسكين.