للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

التقط نصاً من الملطي في أصل تسمية المعتزلة، فخلط بين فرقة الاعتزال المعروفة، وبين الممسكين عن الفتنة المعتزلين لها من الصحابة وغيرهم، واعتبر كل من وقف على الحياد في الفتن معتزلياً فدخلت المرجئة فيهم بهذا الاعتبار، وقد سبق تفصيل القول في أقسام الممسكين عن الفتنة. وهذا القول تابعه عبد الرحمن بدوي (١) وعلي سامي النشار (٢).

والحديث عن المتأثرين بالمستشرقين وإيراد اسم الدكتور النشار يقتضي منا أن نقول فيه خلاصة ما انتهى إليه الاطلاع الكثير على آرائه:

وهو أن على كثرة كتاباته وسعتها وجودة عباراته هو أكثر الباحثين المحدثين اضطراباً وتناقصاً وتخليطاً، وليس في إمكان الباحث أن يجد له رأياً مستقراً أو منهجاً مطرداً.

وإنما ذكرته لأهمية كتبه عند كثير من الناس، ولأنه أستاذ لكثير من المتخصصين في الدراسات الكلامية في مصر وغيرها، ومن أجلى شنائعه أنه يكفر معاوية رضي الله عنه وأباه، ويعتمد على كتب الرافضة في النقل عن الراشدين وغيرهم، ويجعل أصل السلف في الصفات هو اليهود والصابئة!!

وسيأتي بعض آرائه في مواضعها.

الفتنة الثانية (٣)

ليست الفتنة الثانية إلا امتداداً طبيعياً للفتنة الأولى، وإنما تتميز بأن وجهات النظر المختلفة التي أنتجتها الفتنة الأولى أصبحت منذ هذه الفتنة عقائد متميزة ومناهج متفرقة.

ويمكن اعتبار واقعة "صفين" المنطلق التاريخي لهذه الفتنة، بل إن حادثة التحكيم خاصة هي الشرارة التي فجرت بركانها.

لقد أنتجت هذه الحادثة وذيولها فرقتين كبيرتين، أو بتعبير أصح منهجين كبيرين يحوي كل منهما فرقاً كثيرة، كانت- وما تزال- لها وجودها الملموس وخطها المتميز وانحرافها البعيد.

هذان المنهجان هما "التشيع والخروج" وكلاهما ناشئ عن علة واحدة هي "الغلو", ولكنه غلو متضاد.

ولسنا بالطبع بصدد الحديث عن هذين المنهجين تفصيلاً، ولكن لا بد من الحديث عنهما فيما له أثر في نشأة الإرجاء وتطوره.

وذلك أن نمو الأفكار والعقائد أشبه شيء بنمو الكائنات الحية ذات الأطوار المتعددة، بل هي أعقد من ذلك بما يعتريها من التداخل والتركيب والامتزاج، ويقارنها من ردود الفعل والتأثرات النفسية والتقلبات الفكرية، فالتفاعل الفكري أعظم- في كثير من الأحيان- من التفاعل المادي.

وإذ كانت الفتنة الأولى هي المستنقع الذي وجدت فيه جرثومة الإرجاء الأولى، فإن الأحداث التالية قد ولدت جراثيم أخرى, ومع الزمن ظهرت كائنات جديدة تنتمي لتلك الأصول ولكنها تختلف عنها كثيرا في الشكل والحقيقة.

وخفاء العلاقة بين أصول هذه الكائنات الفكرية وبين مراحلها المكتملة يبين أحد أسباب الخلاف بين المؤرخين والباحثين في تصنيفها ونشوئها وتطورها، وهو ما يستدعي تحقيق الأمر وتمحيصه.

وإن من أعظم المطالب العقدية ومن أهم أصول المنهج التاريخي السليم - معاً- أن نعرف الأسباب الحقيقية لتفرق الأمة الإسلامية وخط السير الواقعي لنمو هذه الفرق وتشعبها وهو ما سوف نحاول إيضاحه بقدر ما يسمح المقام.

إن معركة صفين نشبت والأمة على منهج اعتقادي واحد يدين به كلاً المعسكرين المتحاربين وهو منهج أهل السنة والجماعة، أي ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين ثبتوا جميعاً على الهدى وما بدلوا تبديلاً "وإنما كانت النخالة فيمن بعدهم".


(١) ((مذاهب الإسلاميين)) (١/ ٣٧).
(٢) انظر تحقيقه لكتاب: ((فرق وطبقات المعتزلة)، (ص ٥ - ٧)، وهو الجزء الأول من كتابه ((المنية والأمل)).
(٣) أي ما جرى بين علي ومعاوية رضي الله عنهما.

<<  <  ج: ص:  >  >>