للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فالله المستعان، بعد أن كان ملك الروم يدفع الجزية للمسلمين، صار المسلمون يدفعون له ثمن سكوته وكفه عن بلادهم، فأي ضرر أشد على الأمة من تسلط أعدائها بسبب فرقتها واختلافها فيما بينها، فهل ينظر المسلمون إلى تاريخهم، ويتعظوا بأسلافهم، ويعودوا إلى الاجتماع صفا مرصوصا ويدا واحدة وجماعة متحدة، تعمل بكتاب ربها وتهتدي بسنة نبيها صلى الله عليه وسلم ضد عدوها؟ نسأل الله ذلك. ويعطينا شيخ الإسلام ابن تيمية صورا عدة تظهر تسلط العدو الكافر على الأمة المسلمة حينما تتفرق وتختلف فيقول: "وبلاد الشرق من أسباب بتسليط الله التتر عليها، كثرة التفرق والفتن بينهم في المذاهب وغيرها (١).ويقول: "وفي دولة بني بوية ونحوهم كان منهم أصناف المذاهب المذمومة، قوم منهم زنادقة، ومنهم قرامطة كثيرة، ومتفلسفة، ومعتزلة، ورافضة، وهذه الأشياء كثيرة فيهم غالبة عليهم، فحصل في أهل الإسلام والسنة في أيامهم من الوهن ما لم يعرف، حتى استولى النصارى على ثغور الإسلام، وانتشرت القرامطة في أرض مصر والمغرب والمشرق وغير ذلك، وجرت حوادث كثيرة (٢).ويقول مبينا سبب هذا التسليط: "وهذا التفريق الذي حصل من الأمة – علمائها ومشايخها وأمرائها وكبرائها- هو الذي أوجب تسلط الأعداء عليها، وذلك بتركهم العمل بطاعة الله ورسوله كما قال تعالى: وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ [المائدة: ١٤] (٣).نعم، إن الله يعاقب الأمة المسلمة حينما تعصيه, ويعذبها بما يدب بينها من فرقة وتناحر حينما تتهاون في العمل بكتابها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم، فهل من عودة إلى الدين والعمل به؟ ليعود للأمة مجدها وسيادتها (٤)

ثانيا- ذهاب قوة المسلمينإن من مضار الفرقة الجسيمة والتي تقع على الأمة ما يحدث بسببها من ذهاب قوة المسلمين: القوة المعنوية، والقوة المادية، لما تسببه الفرقة من تناحر وتقاتل بين الجماعات المسلمة كما في الحديث: ((حتى يكون بعضهم يهلك بعضا، ويسبي بعضهم بعضا)) (٥)

ولما نزل قوله تعالى: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ [الأنعام: ٦٥].فاستجاب الله دعاء نبيه وأعاذه من الأمرين الأولين، ولم يجبه في الأمرين الآخرين وهو أن يجعلهم فرقا مختلفين، ويذيق بعضهم بأس بعض بالحروب والقتل (٦).

إن الفرقة متى ما دبت في الأمة قاتل بعضهم بعضا، وصار كل يريد الغلبة لنفسه، والسيادة لملكه، وتحقيق مصلحة نفسه، حتى لو قتل أخاه المسلم، وسبى أهله واعتدى على أرضه وماله.


(١) ((الفتاوى)) (٢٢/ ١٥٤).
(٢) ((الفتاوى)) (٤/ ١٩).
(٣) ((الفتاوى)) (٣/ ٢٥٨).
(٤) انظر ((فتح الباري)) (١٣/ ٢٩٦)، (٨/ ٢٩١).
(٥) رواه مسلم (٢٨٨٩)
(٦) انظر ((زاد المسير)) لابن الجوزي (٣/ ٥٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>