للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومن أهمية إرجاء عون، أنه سطر لنا في هذه الأبيات شيئاً مما تعتقده المرجئة الأولى، وهي أبيات يصعب فهمها وتفسيرها على من لم يفهم حقيقة هذا الإرجاء من غيرها.

والتفسير الذي يتناسب مع عقيدة القوم، أنهم يعتقدون في عثمان وعلي الإيمان ولا يخرجونهما من الملة، لكنهم يطعنون في إمامة علي، ويصفونه بالجور في السيرة، حيث سفك من الدماء - بزعمهم - ما سفك.

وكذلك يرون مع إيمان عثمان أنه دمه كان حلالاً، لأنه عدل عن سيرة الشيخين وارتكب ما ارتكب بزعمهم!!

هذه هي عقيدتهم التي نقضها عون، والتي ربما لم يتبين له لوازمها البعيدة إلا بعد مقابلته لعمر، وقد ردها بقوله:

وقالوا مؤمن من آل جور ... وليس المؤمنون بجائرينا

والمقصود هنا علي، أي أن الشهادة له بالإيمان تقتضي منكم ألا تصفوه بالجور، لا سيما والأصل الذي انشقوا عنه "الخوارج" يرى التكفير بالجور كأي معصية , فمن أثبت له الإيمان، لزمه أن ينفي عنه الجور.

وأما عثمان، فكيف تثبتون له الإيمان، ثم تقولون: إن دمه حلال، ودماء المؤمنين حرام معصومة؟!

هذا ما ظهر لي والله أعلم.

بقي أن نشير في ختام هذا الموضوع إلى بعض ما ورد عن الإرجاء مما لا يتضح تفسيره إلا على الإرجاء الأول. ومن ذلك ما رواه عبدالله بن أحمد عن أبيه بسنده إلى الأوزاعي: "كان أبو سعيد الخدري يقول: الشهادة بدعة، والبراءة بدعة، والإرجاء بدعة" (١).

وهو منقطع الإسناد، لكن رواه في موضع تال بسند صحيح متصل إلى جماعة من خيار التابعين، قال: "حدثني أبي حدثنا وكيع عن سفيان عن سلمة بن كهيل قال: اجتمعنا في الجماجم: أبو البختري وميسرة وأبو صالح وضحاك المشرقي وبكير الطائي فأجمعوا على أن الإرجاء بدعة والولاية بدعة والبراءة بدعة والشهادة بدعة" (٢).

ورواه أبو عبيد عن بعضهم (٣).

وقد فسر الإمام أحمد نفسه ذلك، فيما رواه عنه الخلال في باب ذكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إسحاق قال: "سألت عبدالله قلت: الشراة (٤) يأخذون رجلاً فيقولون له: تبرأ من علي وعثمان وإلا قتلناك، كيف ترى أن يفعل؟

قال أبو عبدلله: إذا عذب وضرب فليصر إلى ما أرادوا، والله يعلم منه خلافه.

أخبرنا أحمد بن محمد قال: حدثنا أبو طالب قال: سألت أبا عبدالله عن البراءة بدعة والولاية بدعة والشهادة بدعة؟

قال: البراءة: أن تبرأ من أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. والولاية: أن تتولى بعضاً (٥) وتترك بعضاً. والشهادة: أن تشهد على أحد أنه في النار"

فقد فسر الإمام هذه الألفاظ عدا الإرجاء، فلم يسأله عنه أبو طالب، لكن الثلاثة كلها تتعلق بالصحابة، فهو أيضاً كذلك وتفسيره: "أن ترجئ أمر علي وعثمان فلا تتولاهما ولا تتبرأ منهما" على ما سبق.

وهذا ما كانت الخوارج - أو بعضها- تقبله ممن تظفر به، بخلاف من أظهر موالاتهما وأقر بفضلهما، فقد يكون مصيره القتل.

كما أورد للإمام أحمد عبارة قد يتعسر فهمها وهي قوله في كتاب "السنة" المطبوع مع كتاب "الرد على الزنادقة": "إن الخوارج هم المرجئة" (٧)

وتفسيرها بإرجاء الصحابة هو ممكن، أما الإرجاء العام المتعلق بالإيمان فلا يمكن- اللهم إلا إذا كانت العبارة ناقصة أو محرفة- وذلك بأن يقال: إن الخوارج يتهمون السنة بأنهم مرجئة لأنهم لا يقطعون على صاحب الكبيرة المعين بأنه خالد مخلد في النار.

فرد عليهم الإمام بأنهم هم المرجئة، لأنهم لا يقطعون بدخول عثمان وعلي الجنة من ثبوت الخبر فيهما بدخولها، بل هم إما يكفرونهما - كحال غلاتهم - أو يرجئون أمرهما ولا يقطعون, كحال مرجئتهم.

فكانوا بذلك أحق بهذا الاسم من أهل السنة، لأن من يشك في أمر ثابت جلي هو أولى بهذا اللقب المذموم، ممن يتوقف في أمر لا علم له به!!

المصدر:ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي لسفر الحوالي - ١/ ٣٤٣

<<  <  ج: ص:  >  >>