ونلاحظ أنه مع هذا الظلم الفاحش للحسن، قد نسب إليه في آن واحد مذهب المرجئة الغلاة، والمرجئة الفقهاء "الحنفية" دون أن يفطن، فإن القائلين: إنه لا يضر مع الإيمان معصية هم الغلاة الذين كفرهم السلف، وأما من قال: إن الطاعات ليست من أصل الإسلام لكنها شرائعه، وأن ترك المعاصي مطلوب والعقوبة عليها ثابتة، فهم مرجئة الفقهاء وهم بريئون من الأول.
والنشار إنما ذكر ذلك تخلصاً، لينتقل إلى الحديث عن أبي حنيفة، ومن ثم تابع كلامه قائلاً: "وهنا ظهرت أول فرقة من أهل السنة، ويمثلها بعد الحسن بن محمد، مجموعة من العلماء، على رأسهم أبو حنيفة النعمان، المتوفى ١٥٠ هـ، لم يكفروا أصحاب الكبائر ولم يحكموا بتخليدهم في النار .. " (١)
وهنا سؤال لا بد منه وهو: كيف تكون هذه هي أول فرقة من أهل السنة لا تكفر صاحب الكبيرة؟ أمعنى هذا أن الصحابة والتابعين كانوا يكفرونه، أم المقصود الأولية المطلقة، فلا يكون الصحابة والتابعين معدودين عنده من أهل السنة؟.
ثم إن هذا ليس هو الإرجاء، ولم يسمه أحد كذلك إلا الخوارج، أما ما شرحه هو في الأسطر السابقة فليس هذا، فذلك إرجاء، وهذا جزء من عقيدة أهل السنة في الإيمان.
هذا فوق نسبته مذهب المرجئة الحنفية إلى الحسن وهو منه براء, وقد عاد فأكد ذلك قائلاً: "أما أن أبا حنيفة كان مرجئاً فهذا حق، ولكنه كان مرجئاً- كما سنرى بعد- إرجاء سنة، ولم يخرج بإرجائه عن الجماعة الإسلامية على الإطلاق. . . " (٢)
ويقول: "وقد نادى أبو حنيفة بهذا المذهب، لكي يحمي المجتمع الإسلامي من عقيدة الخوارج التي كانت تنادي بأن الإيمان عقد وعمل (٣)، فمن لم يعمل لم يكن مؤمناً .. فقام الحسن بن الحنفية بدعوته وتابعه عليها أبو حنيفة".
ثم يضيف مؤكداً: "إن مرجئة أهل السنة قد نشأوا على يد رجل من أهل البيت، وهو الحسن بن محمد بن الحنفية، وكان الحسن يرمي إلى حماية المسلمين- شيعة كانوا أو جماعة- من بطش الخوارج، وكانت حركة الأزارقة في أوجها إبان الوقت، ثم نادى بالفكرة نفسها أبو حنيفة. . . " (٤)
ويقول: "وينبغي أن نلاحظ أن مرجئة أهل السنة يختلفون تماماً عن بقية المرجئة، وهؤلاء الآخرون يقولون: إن من شهد شهادة الحق دخل الجنة، وإن عمل أي عمل، وكما لا ينفع مع الشرك حسنة، كذلك لا يضر مع التوحيد معصية .. " (٥) إلخ.
وهذا كما ترى يناقض تماماً ما قرره هو قبل قليل، من أن الحسن "أعلن أنه لا يضر مع الإيمان معصية". فيلزمه أن يجعل الحسن من المرجئة الأخيرين، أي غير مرجئة أهل السنة، أو أن ينفي عنه ما اتهمه به من القول.
والحق - كما أوضحنا سابقاً - أن الحسن بريء من هذا وذاك، وأن إرجاءه لا علاقة له بالإيمان أصلاً.
وأما أن أولئك النفر الذين سمعوا كلام الحسن وقرأوا كتابه قد اتخذوا ذلك ديناً، كما قال عم الراوي (٦) فحق ومتوقع، وهذه هي الطائفة التي يلحقها الذم والعيب، والتي لا شك أن من السهل والطبيعي أن تندمج في فرق المرجئة، أي أن تخضع لسنة التطور نفسها التي عرضناها سابقاً.
وهنا يجدر أن نذكر عالماً آخر، ينطبق عليه ما ينطبق على الحسن من الوقوع في هذا الإرجاء، من غير اتباع لرأي الخوارج ولا تعمد تأسيس بدعة، وهو "عون بن عبدالله بن عتبة بن مسعود".
والظاهر أن هذا الاعتقاد لم يدم طويلاً، حيث استدعاه أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز وكلمه في ذلك، فاستبان له الخطأ وعاد عن قوله، وقال في ذلك شعراً:
لأول ما نفارق غير شك ... نفارق ما يقول المرجئونا
وقالوا مؤمن من آل جور ... وليس المؤمنون بجائرينا
وقالوا مؤمن دمه حلال ... وقد حرمت دماء المؤمنينا (٧)