للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فالقضية التى كانت تشغل أذهان الناس يومئذ - في موضوع الإيمان - هى حكم مرتكب الكبيرة، وبناء على الأصل الفاسد المشترك بين الخوارج والمرجئة معا - وهو أن الإيمان شئ واحد، لا يزيد ولا ينقص ولا يتفاضل أهله فيه - قال الخوارج: أن مرتكب الكبيرة قد ذهب إيمانه فهو كافر، وقالت المرجئة: بل هو كامل الإيمان مهما فعل!! كما يدل عيه آثر ابن أبى مليكة والحسن، وكلام إبراهيم واستدلال البخاري بها.

فلما ذكر زبيد ذلك لشيخه أبى وائل، أجابه بأفضل أنواع الأجوبة وأعلاها؛ وهو أن يجيب المفتى من سأله بنص من النواحي في محل الإشكال.

فالحديث بمنطوقه يدل على التفاوت في الإيمان، وعلى ما يستحق أن يسمى به مرتكب الكبيرة.

فإيمان من قاتل مسلما ليس كإيمان من سبه، ومفهوم منه أن من سلم من هذا وذاك فهو أكثر إيمانا، وقتال المسلم وسبابه معصية تذهب عن صاحبها اسم الإيمان المطلق، فيستحق اسم الفسق إن سبه واسم الكفر إن قاتله (٥)، ولا يسمى مؤمنا بإطلاق إلا من سلم المسلمون من لسانه ويده، وأمنه الناس على أنفسهم وأموالهم , كما دلت النصوص الأخرى.

وفي هذا دليل على خطر المعاصى التى تهون المرجئة من شأنها؛ إما نصا وإما لزوما.

ومما يوضح هذا الأمر وموقف أبى وائل منه - ما رواه عنه الطبرى بسنده، قال: قوم يسألونى عن السنة فأقرأ عليهم: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ [البينة:١] حتى قوله: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:٥] يعرض المرجئة (١).

وإذا كان هذا النص يعطينا مفهوما عن الفكرة، فإن نصا آخر يقدم تاريخا" أكثر تحديدا"، وهو ما رواه ابن بطة من طريق الإمام احمد عن قتادة أنه قال: " إنما أحدث الإرجاء بعد هزيمة ابن الأشعث " (٢).

والحقيقة أن هذا النص يقدم لنا ما هو أعم من ذلك، وهو ردة الفعل النفسية تجاه الهزيمة.

فابن الأشعث هو عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث الكندى، أحد ولاة بنى أمية أيام الحجاج، استعمله الحجاج في الوقت الذى كانت مظالمه تملأ البلاد، وكانت الخوارج تثير الناس بذلك وتتذرع به لنشر ضلالها، وكان العلماء والصالحون حيارى بين فتنة الخوارج ومظالم الحجاج, حتى أنه لما قام بعضهم يدعو الخوارج إلى السلم والدخول في الطاعة أنكر عليهم آخرون - على سبيل اليأس - قائلين: " إلى من تدعوهم؟ إلى الحجاج؟! " (٣).

في هذا الجو الحالك أعلن ابن الأشعث تمرده على الحجاج، ودعا الناس إلى النهوض معه لإقامة العدل ورفع الظلم وتحكيم الكتاب والسنة، وفعلا " قام معه علماء وصلحاء لله تعالى؛ لما انتهك الحجاج من إماتة وقت الصلاة، ولجوره وجبروته " (٤).

ولم يكن معروفا عنه بدعة، وإنما هو ثائر سياسي، فر أي فيه هؤلاء العلماء والقراء منفذا بين نارين، واستعجلوا الأمر، ورفضوا ما أشار به الحسن وغيره من الصبر والدفع بالتي هي أحسن، وتجنب سفك الدماء ما أمكن - كما هو مذهب سائر أهل السنة والجماعة في مثل هذا - ولكن هذا الاندفاع والتحمس سرعان ما تبدد، وأنتج أسوأ النتائج حين ظهر الحجاج على بن الأشعث وقضى عليه، وأخذ في ملاحقة العلماء واحدا واحدا، وكان أشهرهم سعيد بن جبير الذي كان مقتله فاجعة.

وهنا برز قرن الإرجاء بين صفوف هؤلاء اليائسين المستسلمين للأمر الواقع، كما تجرأ الذين كانوا مرجئة من قبل فأعلنوا مذهبهم، واستغلوا آثار الهزيمة لنشره، كما نشط الخوارج وخلت لهم الساحة أكثر من ذي قبل وندم بقية القراء الثائرين على ما تركوا من رأي الحسن وأمثاله.

<<  <  ج: ص:  >  >>