للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكانت الكوفة مركز إمارة الحجاج ومصب جوره، كما كانت هدف هجمات الخوارج ومطمع قادتهم، ولهذا كان طبيعيا أن تكون أيضا بيئة الإرجاء ومركزه، لا سيما والتشيع سمة عامة لها. وبلا شك قام أهل السنة والجماعة وأئمة العلم بجهد مشكور لمقاومة هذه الفكرة ومحاصرتها، ولم يقدر لها انتشار عام حقيقي إلا زمن بني العباس، حين تبنت الدولة رسميا مذهب أهل الرأي؛ الذي يدين فقهاؤه بهذه العقيدة كما سنرى، ومع ذلك صمد لها أهل السنة، ولا سيما الإمام أحمد وتلميذه أبو داود، ثم سار على منهجه علماء النقد والرجال وغيرهم.

وإن مما يعطينا تحديدا أدق لتاريخ هذه الفرقة وانتشارها، وفي الوقت نفسه موقف أهل السنة والجماعة منها , أن نستعرض بعض أقوال الأئمة المعاصرين لنشوئها فيها:

١ - إبراهيم النخعي:

التابعى المشهور، فقيه الكوفة الأكبر في عصره، ومن تلاميذه كان مرجئة الفقهاء، وقد عاصر تلك الأحداث، وتوفى بعد الحجاج، ببضعة أشهر سنة ٩٦ هجرى باتفاق (٢).

ومن أقواله فيهم:

" الإرجاء بدعة ".

" إياكم وأهل هذا الر أي المحدث " - يعنى الإرجاء -.

وكان رجل يجالس إبراهيم يقال له محمد، فبلغ إبراهيم أنه يتكلم في الإرجاء، فقال له إبراهيم: " لا تجالسنا ".

" ودخل عليه قوم من المرجئة فكلموه، فغضب وقال: إن كان هذا كلامكم فلا تدخلوا علي ".

وقال: " تركوا هذا الدين أرق من الثوب السابرى ".

وقال له بعض تلاميذه: " إنهم يقولون لنا: مؤمنون أنتم؟ وقال: إذا سألوكم فقولوا: قُولُواْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ ... [البقرة:١٣٦] إلى آخر الآية " (٣).

وقال: " لفتنتهم عندي أخوف على هذه الأمة من فتنة الأزارقة ".

أو: " لفقوا قولا، فأنا أخاف على الأمة، والشر من أمرهم كثير، فإياك وإياهم " (٤).

٢ - سعيد بن جبير:

وهو كبير القراء الثائرين على الحجاج، قال: " المرجئة يهود القبلة " (٥).

وقال: " المرجئة مثل الصابئين ".

ويشرح ذلك في رواية أخرى، مبينا وقوفهم في الوسط بين أهل السنة والخوارج - بزعمهم -، قال: " مثلهم كمثل الصابئين، إنهم أتوا اليهود فقالوا: ما دينكم؟ قالوا: اليهودية، قالوا: فمن نبيكم؟ قالوا: موسى، قالوا: فماذا لمن تبعكم؟ قالوا: الجنة.

ثم أتوا النصارى، فقالوا: ما دينكم؟ قالوا: النصرانية، قالوا: فما كتابكم؟ قالوا: الإنجيل، قالوا: فمن نبيكم؟ قالوا: عيسى، قالوا: فماذا لمن تبع دينكم؟ قالوا: الجنة. قالوا: فنحن بين ذين " (٦).

٣ - الزهري:

الإمام المشهور المعاصر لهؤلاء، قال: " ما ابتدعت في الإسلام بدعة هى أضر على أهله من هذه - يعنى الإرجاء - " (١).

٤ - شهاب بن خراش:

" قال هشام: لقيت شهابا وأنا شاب في سنة أربع وسبعين، فقال لي: إن لم تكن قدريا ولا مرجئا حدثتك، وإلا لم أحدثك، فقلت: ما في من هذين شئ " (٢).

٥ - يحيى وقتادة:

" قال الأوزاعي: كان يحيى وقتادة يقولان: ليس من أهل الأهواء شئ أخوف عندهم على الأمة من الإرجاء " (٣).

....... والمراد أن هذه الفرقة ظهرت وترعرعت في ذلك الزمن، وأن أهل السنة والجماعة لم يألوا جهدا في مقاومتها، وكان نظرهم بعيدا وصائبا حين توقعوا آثارها المدمرة على الأمة , مع أنه لم يكن لها حينئذ من الواقع ما يستلفت النظر، بل كان القائلون بهذا عبادا وزهادا في الغالب.

وعلى هذا فلا غرابة في تشديد ورثة هؤلاء من أئمة السنة على المرجئة، مثل وكيع وابن المبارك والسفيانين، وابن مهدى، وابن معين، والإمام أحمد والبخاري وأبي داود، ونحوهم؛ وذلك أن الآثار قد ظهرت، والإرجاء الغالي حينئذ قد برز.

<<  <  ج: ص:  >  >>