للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال: فقيل ذلك على ميمون وعبد الكريم؟ قلتُ: لا. قال: دخل علي منهم اثنى عشر رجلا، وأنا مريض، فقالوا: يا أبا محمد، بلغك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه رجل بأمة سوداء أو حبشية، فقال: يا رسول الله إن علي رقبة مؤمنة، أفترى هذه مؤمنة؟ قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتشهدين أن لا إله إلا الله " قالت: نعم، قال: " وتشهدين أني رسول الله " قالت: نعم، قال: " وتشهدين أن الجنة حق وأن النار حق " قالت: نعم، قال: " أتشهدين أن الله يبعثك من بعد الموت " قالت: نعم، قال: " فأعتقها فإنها مؤمنة)) (١). قال: فخرجوا وهم ينتحلوني.

قال: ثم جلست إلى ميمون بن مهران، فقيل له: يا أبا أيوب: لو قرأت لنا سورة نفسرها، قال: فقرأ أو قرأت: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ [التكوير:١]، حتى إذا بلغ: مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التكوير:٢١]، قال: ذاك جبريل والخيبة لمن يقول إيمانه كإيمان جبريل ".

ويروي ابن بطة بسنده عن المبارك ابن حسان قصة أخرى، " قال: قلت لسالم الأفطس: رجل أطاع الله فلم يعصه، ورجل عصى الله فلم يطعه، فصار المطيع إلى الله فأدخله الجنة، وصار العاصي إلى الله فأدخله النار , هل يتفاضلان في الإيمان؟

قال: لا

قال: فذكرت ذلك لعطاء، فقال: سلهم الإيمان طيب أم (١) خبيث؟ فإن الله تعالى قال: لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [الأنفال:٣٧] (٢).

فقال النحات (٣): إنما الإيمان منطق وليس معه عمل!، فذكرت ذلك لعطاء، فقال: سبحان الله! أما تقرؤون الآية التى في سورة البقرة: لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ [البقرة:١٧٧].

قال: ثم وصف الله هذا الإثم فألزمه العمل، فقال:

وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ .... إلى قوله: صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ.

قال: سلهم هل دخل هذا العمل في هذا الاسم؟

وقال: وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ [الإسراء:١٩].

فألزم الاسم العمل وألزم العمل الاسم " (٤).

هذا الجدل المبكر (زمن التابعين) في موضوع العمل يعطينا فكرة واضحة عن مذهب المرجئة الفقهاء فيه، وحقيقة الخلاف بينهم وبين أهل السنة والجماعة منذ نشأتهم، كما بين لنا منهج السلف العلمي في مجادلتهم، وهو أن أهم جانب في القضية شغل أذهان السلف هو موضوع عمل الجوارح؛ أي أداء الفرائض واجتناب المحرمات، وأن حقيقة الإيمان لا تكون إلا به مع عمل القلب، فإذا انتفى أحدهما انتفى الإيمان.

الجهم بن صفوان:

أما الجهم بن صفوان فهو رأس الضلالات وَأُسُّ البليات، جعله الله فتنة للناس وسببا للإضلال، كما جعل السامرى في بني إسرائيل.

وحسبنا أن نعلم أن هذا الرجل الذي كان من شواذ المبتدعة في مطلع القرن الثاني قد ترك من الأثر في الفرق الإسلامية الثنتين والسبعين ما لا يعادله أثر أحد غيره (٦).

هذا مع أنه ليس بإمام يحتج بقوله، ولا عالم يعتد بخلافه، ولا شهد له أحد بخير!!


(١) رواه مسلم (٥٣٧) , من حديث معاوية بن الحكم رضي الله عنه.

<<  <  ج: ص:  >  >>