للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فإن من المعلوم أن واصل بن عطاء ومن تابعه من المعتزلة يرون فيما جرى بين الأصحاب - رضوان الله عليهم أجميعن - "أن فرقة من الفريقين فسقة، لا بأعيانهم، وأنه لا يعرف الفسقة منهما، وأجازوا أن يكون الفسقة من الفريقين عليا وأتباعه - كالحسن والحسين وابن عباس وعمار بن ياسر وأبي أيوب الأنصاري وسائر من كان مع علي يوم الجمل-، وأجاز كون الفسقة من الفريقين عائشة وطلحة والزبير وسائر أصحاب الجمل. ثم قال في تحقيق شكه في الفريقين: لو شهد علي وطلحة أو علي والزبير أو رجل من أصحاب علي ورجل من أصحاب الجمل عندي على باقة بقل لم أحكم بشهادتهما؛ لعلمي بأن أحدهما فاسق لا بعينه، كما لا أحكم بشهادة المتلاعنين؛ لعلمي بأن أحدهما فاسق لا بعينه، ولو شهد رجلان من أحد الفريقين أيهما كان قبلت شهادتما" (١)."وقال واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد والنظام وأكثر القدرية: نتولى عليا وأصحابه على انفرادهم، ونتولى طلحة والزبير وأتباعهما على انفرادهم، ولكن لو شهد علي مع رجل من أصحابه قبلت شهادتهما، ولو شهد طلحة أو الزبير مع واحد من أصحابه قبلت شهادتهما، ولو شهد علي مع طلحة على باقة بقل لم نحكم بشهادتهما؛ لأن أحدهما فاسق، والفاسق مخلق في النار، وليس بمؤمن ولا كافر" (٢).

فهذا الضال الهالك ومن تابعه يتولون أحد الفريقين على الانفرادِ، بخلاف لو اجتمعا فيتبرؤون منهما جميعا.

وبهذا يستبين مراد شيخ الإسلام بأن ما وضعه الحسن نقيض قول المعتزلة، أي فيما يتعلق بالصحابة، ويزيد الأمر تأكيدا أن جماعة من العلماء فسروا الإرجاء عند الحسن بهذا، ومن هؤلاء الذهبي، وابن كثير، وابن حجر.

فالحافظ الذهبي رحمه الله يقول أثناء ترجمته للحسن:

"قلت: الإرجاء الذي تكلم به معناه: أنه يرجئ أمر عثمان علي إلى الله، فيفعل فيهم ما يشاء، ... ، وذلك أن الخوارج تولت الشيخين، وبرئت من عثمان وعلي، فعارضتهم السبائية، فبرأت من أبي بكر وعمر وعثمان، وتولت عليا وأفرطت فيه. وقالت المرجئة الأولى: نتولى الشيخين، ونرجئ عثمان وعليا، فلا نتولاهما، ولا نتبرأ منهما" (٣).وأما الحافظ ابن كثير رحمه الله، فقد نقل أن إرجاء الحسن هو "التوقف في عثمان وعلي وطلحة والزبير، فلا يتولاهم، ولا يذمهم" (٤).

والحافظ ابن حجر رحمه الله يقول في معنى إرجاء الحسن: "قلت: المراد بالإرجاء الذي تكلم الحسن بن محمد فيه غير الإرجاء الذي يعيبه أهل السنة المتعلق بالإيمان، وذلك أني وقفت على كتاب الحسن بن محمد المذكور"، ثم ذكر جملة منه، ثم قال:"فمعنى الذي تكلم فيه الحسن أنه كان يرى عدم القطع على إحدى الطائفتين المقتتلتين في الفتنة بكونه مخطئا أو مصيبا، وكان يرى أنه يرجأ الأمر فيهما، وأما الإرجاء الذي يتعلق بالإيمان، فلم يعرج عليه، فلا يلحقه بذلك عاب، والله أعلم" (٥).

ومن خلال هذه النقول يتضح أن قضية الإرجاء عند السحن مجرد التوقف في الحكم لأحد الفريقين بالصواب أو الخطأ، وهذا لا علاقة له البتة في الإرجاء من حيث كونه نعتا على المخالف في مسألة الإيمان، ومع هذا فإن الحسن - عفا الله عنه - ندم على ما رقمته يداه، بل تمنى الموت قبل كتابته، والله المستعان.

ومما تقدم يتبين أنه لا تعارض بين ما قاله شيخ الإسلام من أول قائل بالإرجاء هو حماد بن أبي سليمان، مع من قال إنه الحسن؛ لأن الإرجاء الذي تكلم به الحسن ليس هو الإرجاء الذي تكلم به حماد، فإن إرجاء الحسن متعلق ببعض الصحابة، وإرجاء حماد متعلق بالإيمان كما تقدم.

المصدر:آراء المرجئة في مصنفات شيخ الإسلام ابن تيمية لعبدالله محمد السند - ص ١٠١


(١) ((الفرق بين الفرق))، للبغدادي تحقيق محمد محي الدين عبدالحميد، دار المعرفة ببيروت، (ص١٢٠)؛ وانظر: ((منهاج السنة)) (٨/ ٦).
(٢) ((أصول الدين))، للبغداد، الطبعة الثالثة ١٤٠١هـ، دار الكتب العلمية ببيروت، (ص٢٩٠ - ٢٩١)؛ وانظر منه، (ص٣٣٥)؛ وانظر: ((الملل والنحل))، للشهرستاني، تعليق أحمد فهمي محمد، الطبعة الأولى ١٤١٠هـ، دار الكتب العلمية ببيروت (١/ ٤٣).
(٣) ((تاريخ الإسلام)) "حوادث (٨١ - ١٠٠)، (ص ٣٣٣).
(٤) ((البداية والنهاية)) (١٢/ ٥٥٥).
(٥) ((تهذيب التهذيب)) (١/ ٤١٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>