للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأشهر من يمثل هذا المذهب هم فقهاء الحنفية المتمسكون بعقيدة السلف وعلى رأسهم الإمام أبو جعفر الطحاوي صاحب العقيدة المشهورة، والإمام القاضي ابن أبي العز شارحها، وقليل من المتأخرين. وحقيقة الأمر أن مذهب هؤلاء مضطرب متردد، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " إنهم إذا لم يدخلوا أعمال القلوب في الإيمان لزمهم قول جهم، وإن أدخلوها في الإيمان لزمهم دخول أعمال الجوارح أيضاً , فإنها لازمة لها ". (١). وعبارة الطحاوي رحمه الله تدل على هذا فإنه قال: " والإيمان هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان، وجميع ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشرع والبيان كله حق، والإيمان واحد، وأهله في أصله سواء، والتفاضل بينهم بالخشية والتقى ومخالفة الهوى، ملازمة الأولى (٢).

فقوله: " والإيمان واحد " شاهد لما قلنا من أن أصل الشبهة ومنطلقها هو هذا.

وقوله: "في أصله سواء والتفاضل بينهم بالخشية والتقى" إلخ , مخالف لذلك، فاضطربت عبارته؛ لأن قوله: "وأهله في أصله سواء" يدل عل أن للإيمان أصلاً وفرعاً أو فروعاً - هو أعمال الجوارح وأعمال القلب-.

فيقال: إن كان الفرع داخلاً في مسمى الأصل كما هو الشرع واللغة والعرف لم يعد الإيمان واحداً، بل متفاوتاً متفاضلاً - كإثباته التفاضل في الخشية والتقى -.

وإن كان غير داخل في مسماه فقوله: "وأهله في أصله سواء" غير دقيق فينبغي أن يقول "وأهله فيه سواء".والذي دفعه رحمه الله إلى الوقوع في هذا هو محاولة الجمع بين مذهبي السلف وأبي حنيفة , لأن الرجل حنفي سلفي، وكذا شارح عقيدته، فإنه حاول ذلك أيضاً وأراده، ولهذا قال في شرح العبارة " ولهذا - والله أعلم - قال الشيخ رحمه الله: وأهله في أصله سواء يشير إلى أن التساوي إنما هو في أصله، ولا يلزم منه التساوي من كل وجه ". (٣).فيقال له: ما هذا الأصل من التصديق الذي يكون أهل الإيمان كلهم مشتركين فيه ويكون ما فوقه زيادة عليه؟ ومن الذي وضعه؟ وهذا في الحقيقة يقودنا إلى قضية فلسفية منطقية هي إثبات الماهية المشتركة خارج الذهن (٤). وهو ما لا يقره رحمه الله.

وهاهنا قضية مهمة، وهي أن بعض الناس يثبتون أن الخلاف بين مذهب السلف ومذهب أبي حنيفة لفظي بإطلاق، مستدلين بظواهر بعض كلام شيخ الإسلام وبمثل صنيع الطحاوي والشارح، والأخير نص على أن الخلاف صوري، ونحن وإن كان غرضنا هنا ليس التفصيل وإنما هو إثبات الظاهرة , فإننا نبين وجه الحق في ذلك وعلاقته بتطور الظاهرة قائمة أيضاً؛ لأن بعض الناس قد يحسب أن الماتريدية - وهي الطور النهائي للظاهرة بالنسبة للمرجئة الفقهاء- هي على مذهب أبي حنيفة كما تزعم، والخلاف بينها وبين السلف صوري.

وسوف نبطل ذلك ببيان حقيقة الخلاف بين أبي حنيفة والسلف، ثم نبين بعد خروج مذهب الماتريدية عن حقيقة مذهب الإمام.

بل إن بيان مذهب أبي حنيفة والمرجئة الفقهاء عامة لهو مما يدل على انقراضه إلا من أمثال هذين الإمامين.

فما حقيقة الخلاف بين مذهب السلف ومذهب الحنفية؟

قبل الإجابة المباشرة يجب أن نتذكر ما سبق في فصل " المرجئة الفقهاء " من نقل ذم علماء السلف للمرجئة وأنهم هم هؤلاء، وبيان ظلالهم وبدعتهم، وهو ما تنصح به كتب العقيدة الأثرية عامة، فهل يعقل أن يكون هذا كله والخلاف لفظي فقط؟!

والذي تبينته من خلال الدراسة والتتبع أن سبب اللبس الواقع أحياناً هو أن للمسألة جانبين:

الأول: ما يتعلق بحقيقة الإيمان أو ماهيته التصورية إن صح التعبير:


(١) ((الإيمان)) (ص١٨٣).
(٢) الفقرات من (٦٢ - ٦٤) من ((متن العقيدة)): (ص٣٠٧) من ((الشرح)).
(٣) ((شرح العقيدة الطحاوية))، (ص٣١٠).
(٤) وهو المعقود له فصلاً خاصاً بعنوان الأثر المنطقي وسيأتي (ص٤٤٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>