للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هذا مع أن الأشعري نفسه صرح بمذهب جهم وجعله الفرقة الأولى من فرق المرجئة، والمنتسبون إليه يقرؤون ذلك إلى اليوم، بل إن كلام إمامهم المتقدم " الباقلاني " في الإيمان يماثل ما ذكره إمامهم المنتسبون إليه " الأشعرى " عن جهم!! وهذا من تناقضهم.

وعلى هذا يصح أن نقول إن مذهب الجهمية في جملته لم ينقرض، وإنما انقرض القسمان الأولان من الأقسام الثلاثة المتفقة على الإيمان يكون بالقلب وحده - أعني سائر الفرق ذات المقالات والجهمية -.أما الفرقة الثالثة فكل ما عملته هو تحوير أو تعديل في كلام جهم، فوضعت التصديق بدلا من المعرفة، وصرحت بنفي أعمال القلب الأخرى مثلما صرح جهم وجعلت الأعمال المكفرة مجرد علامة على الكفر الباطن، وجعلت كل من حكم الشرع بكفره فاقدا للتصديق القلبي، ونحو ذلك من الآراء واللوازم التي لم يخالفوا جهما في شئ منها , إلا إذا صح أن جهما التزم القول بأن من أعلن التثليث في دار الإسلام وحمل الصليب بلا تقية أنه يكون مؤمنا إذا كان يعرف الله (١). على أن ابن حزم نسب هذا الالتزام للأشعرى معه، ولا يصح هذا عن الأشعري.

لكن الأشعرية يقولون إنه يمكن أن يكون مؤمنا في الباطن، ولكن إعلانه التثليث وحمله الصليب دليل على كفره، وعلامة عليه، فهو كافر " ظاهرا " مع كونه مؤمنا " باطنا " إذا كان مصدقا!! وعلى أية حال فإن الفرق بين التصديق المجرد من أعمال القلب وبين المعرفة مما يتعذر على العقول إدراكه، كما نص شيخ الإسلام على أن الانقراض قد شمل أيضا آراء بعض قدماء المذهب الأشعري؛ فمؤسسه ابن كلاب كان على عقيدة المرجئة الفقهاء (٢).، وأما أبو عبدالله بن مجاهد تلميذ الأشعري وشيخ الباقلاني، وأبو العباس القلانسي، ونحوهم؛ فكانوا على عقيدة السلف في الإيمان - كما نقله عنهم أبو القاسم الأنصارى شيخ الشهرستاني في شرح كتاب الإرشاد للجويني (٣). وكل هؤلاء لم يبق لهم في مذهب الأشعرية أثر.

٣ - المرجئة الفقهاء:

بعد أن استقرت الأمة على التمذهب بالمذاهب الأربعة المشهورة، استقر مذهب المرجئة الفقهاء ضمن مذهب أبي حنيفة رحمه الله، ولهذا أصبح يسمى مذهب الحنفية.

وأبو حنيفة رحمه الله تضاربت الأقوال في حقيقة مذهبه - وموقفه من أعمال القلوب خاصة - أهي داخلة في الإيمان أم لا؟ ولم يثبت لدي فيما بحثت أي نص من كلام الإمام نفسه، إلا أنني لا أستبعد أنه رحمه الله رجع عن قوله ووافق السلف في أن الأعمال من الإيمان، وهذا هو المظنون به (٤). أما المشهور المتداول عنه فهو مذهب المرجئة الفقهاء , أي إن الإيمان يشمل ركنين: تصديق القلب وإقرار اللسان، وأنه لا يزيد ولا ينقص ولا يستثنى فيه، وأن الفاسق يسمى مؤمناً , إذ الإيمان شىء واحد ينتفي كله أو يبقى كله حسب الأصل المذكور سابقاً.


(١) انظر: الفصل (٣/ ٤٧)، وأما أبوعبيد فلم يقل إنه مذهب جهم، بل قال إنه لازم له، الإيمان ص٨٠. وانظر: ((الإيمان)) لابن تيمية (ص١٤١٠ - ١٥٢)، ففيه تفصيل لموافقة الأشعرية للجهمية ورد عليهم فى تلك الآراء واللوازم وكذا (ص١١٥،١٨٤)، ومواضع كثيرة، و ((درء التعارض)): (٢/ ٢٧٤).
(٢) انظر: ((درء التعارض)) (ص١١٤)، و ((إتحاف السادة المتقين)) يشرح الإحياء للزبيدى (٢/ ٢٤٣)
(٣) انظر: ((إتحاف السادة المتقين)) (ص١٣٨،١١٤).
(٤) روى الإمام ابن عبد البر بسنده أن حماد بن زيد ناظر أبا حنيفة في الإيمان، وذكر له حديث " أي الإسلام أفضل، وفيه ذكر أن الجهاد والهجرة من الإيمان " فسكت أبو حنيفة، فقال بعض أصحابه: ألا تجيبه؟ قال: لا - أو بم - أجيبه وهو يحدثني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ((التمهيد)) (٩/ ٢٤٧)، ونسبها ابن أبي العز للطحاوى (٣٣١).

<<  <  ج: ص:  >  >>