للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

٢ - الحياء: وهو عمل قلبي، وقد صح تسميته إيمانا في حديث الشعب وغيره، ومع ذلك فلا يمكن تصور وجوده في القلب إلا بظهور أثره على اللسان والجوارح، وبمقدار حياء الجوارح يقاس حياء القلب. وقد ورد في ذلك أحاديث كثيرة، منها في الأفعال قصة الثلاثة الذين دخلوا علي النبي صلي الله عليه وسلم وهو في الحلقة، فدخل أحدهم فيها وأعرض الثالث، وأما الأوسط فتردد ثم جلس خلفهم، فقال عنه النبي صلي الله عليه وسلم ((وأما الآخر فاستحيا، فاستحيا الله منه)) (١).، أي إنما منعه من الذهاب حياؤه , فشهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بالحياء بناء على فعله، فلو ذهب لقال فيه ما قال فيمن ذهب.

وأما الحياء في القول، فمنه قول علي رضي الله عنه: (كنت رجلا مذاء، فاستحييت إن أسال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرت المقداد بن الأسود فسأله) (٢)، فما في قلب علي رضي الله عنه من الحياء منعه من السؤال بنفسه، وهذا مما يعلمه كل إنسان في نفسه، أي متي يستحي وممن يستحي بحسب ما في قلبه.

ثم يأتي بعد هذا مسألة التفاوت في الصلاة والتفاوت في الحياء، فصلاة يقترن بها الخشوع وحضور القلب وحسن الأداء لا تكون كأخرى منقورة نقر الغراب، وكذلك حياء مقرون به زيادة التقوى وحسن السمت وورع اللسان لا يكون كحياء رجل ليس لديه إلا ما يمسكه عما يفعله أو يقوله من لا حياء له.

ومثل هذا التفاوت هو الواقع في الإيمان كله بحسب كمال الشعب جميعها أو كمال بعضها دون بعض أو فقدان بعضها بالكلية.

هذا في الأفعال، والحال في التروك كذلك، فلنمثل لها أيضا بمثالين:

١ - ترك الزنا:

وهو عمل الجارحة، وهو من الإيمان بدليل نفي الشارع الإيمان عمن فعله، وهو يشمل قول القلب، أي الإقرار بحرمته وتصديق الشارع في ذلك؛ وعمل القلب، وهو الانقياد والإذعان بالكره والنفور والإرادة الجازمة لامساك الجوارح عنه؛ وعمل الجوارح، وهو الكف عن فعله ومقدماته.

فمن ارتكب هذه الفاحشة بجوارحه فإن عمل قلبه مفقود بلا شك - خاصة حين الفعل -، لأن الإرادة الجازمة على الترك يستحيل معها وقوع الفعل، فمن هنا نفى الشارع عنه الإيمان تلك اللحظة " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن "، لكن وجود قول القلب عنده منع من الحكم بخروجه من الإيمان كله خلافا للخوارج، فلو أظهر ما يدل على انتفاء إيمان القلب واستحلاله له لكان خارجا من الملة عند أهل السنة والجماعة، أما مجرد الفعل فإنما يدل على انتفاء عمل القلب لا قوله.

٢ - ترك الحسد: وهو من أعمال القلب، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يجتمع والإيمان في قلب (٣) , فلا يتصور خلو القلب من الحسد مع وجود آثاره ودلائله على الجوارح، كما لا يستطيع أحد أن يدعي أن فلانا حسود مع عجزه عن الإتيان بدليل ظاهر من عمله.

وقد أخبرنا الله تعالى عن أخوة يوسف وما صنعوا بأخيهم حسدا له على مكانته من أبيه، ومن المحال أن يصدر منهم هذا مع خلو قلوبهم من الحسد، إذ إن أعمال الجوارح إنما هي تنفيذ وتحقيق لإرادة القلب الجازمة، فوجودها في الحالة السوية - أي حالة عدم الإكراه ونحوه - يقطع بوجود أصلها القلبي.

وهذا بخلاف اتهام المنافقين للصحابة رضي الله عنهم، الذي أخبر الله عنه بقوله فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا [الفتح: ١٥] , لأن المنافقين ادعوا أن مانع المؤمنين من استصحابهم إياهم إلى المغانم هو الحسد، وهي تهمة لم يأتوا عليها بدليل إلا المنع نفسه، والله تعالى أمر المؤمنين إن يقولوا لهم: لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ [الفتح: ١٥].


(١) رواه البخاري (٤٧٤) ومسلم (٢١٧٦).
(٢) رواه البخاري (١٧٨) ومسلم (٣٠٣).
(٣) رواه النسائي (٦/ ١٢) وهو صحيح.

<<  <  ج: ص:  >  >>