للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

انظر إلى كلام هذا الإمام وهو يتحدث عن واقع عصره حين كان الانحراف في توحيد الله بالعبادة، وتوحيد الرسول بالمتابعة - مع دعوى المحبة لله ورسوله - محصورا في الضلالات الكلامية والبدع السلوكية، كقول الأشاعرة: إن الظواهر النقلية لا بد من عرضها على القواطع، لأنها يقين، وظواهر النقل ظنون بزعمهم (١).

وكقول المتصوفة بعرض النصوص الشرعية على الكشف والذوق والحال وكقول المتفقة بعرض الأحاديث الصحيحة على كلام إمام المذهب، ونحو ذلك من الانحرافات المغلفة بالتأويلات الفاسدة.

أقول: ذلك الانحراف على خطورته أين منه ما وقع في العصور الأخيرة، من تحكيم صريح لقوانين الكفار ومناهجهم وطرق حياتهم، وتقديم ذلك على الكتاب والسنة، ومحاربة الداعين إلى التمسك بالدين وتحكيم الشريعة، واستئصال شأفتهم؟! ومع هذا يدعى أصحاب هذا الكفر المبين ورجال دينهم محبة الله ورسوله ويعبرون عن هذا الحب المزعوم بالمظاهر والاحتفالات البدعية، وأعمال " الضرار" الأخرى ويستدرجون بها عقول بعض العلماء الناصحين، فيتورعون عن الحكم عليهم بما حكم الله عليهم به متذرعين بأنهم غير مستحلين!!

إن الصورة العصرية المناقضة لشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله أي لتوحيد العبادة وتوحيد المتابعة - تتجرد عن التأويلات والأقيسة، وتتعرى عن قصد المصلحة والإخلاص، وتتجلى في صورة افتئات صارخ على مقام الألوهية، وتحكم مقنن في حكم الله ورسوله.

هذه الصورة التي من مظاهرها المتكررة الدائمة عرض حكم الله ورسوله وتوقف إقراره على موافقة السلطة التى منحها القانون حق التشريع المطلق.

مثال ذلك: تحريم الخمر، وهو حكم قطعى ضرورى في الشريعة الإسلامية، يتوسل الدعاة والعلماء الطيبون إلى السلطة الحاكمة أن تقره لكى يصبح تشريعا رسميا ملزما، فإن تكرمت السلطة وقبلت الطلب عرضته على المجلس التشريعى الذي أعطى بحكم الدستور حق التشريع المطلق - ليبدي رأيه بالموافقة أو عدمها!

ثم في المجلس تدور معركة الأصوات بين المؤيدين والمعارضين الذين يعترضون بكل ثقة وبكل جرأة، لأنهم يمارسون عملهم الطبيعي وسلطتهم المشروعة.

وفي أحسن الحالات - بل على أحسن الافتراضات - يحصل القرار على الأغلبية، وهنا فقط يصبح حكما ملزما، ويدرج ضمن مواد التشريع الوضعي على انه فقرة من فقراته.

ومع ذلك يظل حق السلطة التشريعية الثابت في إلغاء هذه المادة - متى شاءت - محفوظا بحكم الدستور.

أي لو فرضنا إن دولة ما طبقت بعض أحكام الشريعة، كجلد شارب الخمر مثلا، فهذا الحكم لم يكتسب صفة القانون والإلزام والتنفيذ لصدوره عن الله عز وجل، بل لصدوره عن السلطة التشريعية الرسمية التي أقرته بعد عرضه عليها!!

فالله جل جلاله - عندهم - ليس من حقه التشريع لذاته، ولا هو أهل لان يطاع، وليس لحكمه صفة الإلزام لذاته، وإنما ينتقي ويختار من أحكامه بناء على موافقة مصدر السلطات ومالك حق التشريع، وهم البشر!!

ونحن نسأل هؤلاء المدعين للإسلام السؤال نفسه الذي سأله الإمام ابن القيم أسلافهم، فنقول: لو قدر إن الرسول صلى الله عليه وسلم حي بين أظهرنا، وواجهنا بكلامه وبخطابه وتلا علينا حكم الله في أي أمر، أكان فرضا علينا إن نتبعه ونطيعه رأسا - أم نعرض ما يأتينا به على تلك المجالس؟

فسيقولون: بل لابد من الامتثال والطاعة توا، فنقول: أغياب شخص النبي صلى الله عليه وسلم، مع بقاء دينه غضا طريا كما نزل هو السبب إذن في إعراضكم عن شرع الله، وتطاولكم على مقام الألوهية، وجلوسكم على عرش الربوبية؟!


(١) [٤٤٠٧] انظر الفصل المتعلق بقانون التعارض من أساس التقديس للرازي.

<<  <  ج: ص:  >  >>