للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فهما توحيدان لا نجاة للعبد من عذاب الله إلا بهما: توحيد المرسل، وتوحيد متابعة الرسول، فلا يحاكم إلى غيره، ولا يرضى بحكم غيره، ولا يرضي بحكم غيره، ولا يقف تنفيذ أمره وتصديق خبره على عرضه على قول شيخه وإمامه، وذوي مذهبه وطائفته ومن يعظمه، فان أذنوا له نفذ وقبل خبره، وإلا فان طلب السلامة اعرض عن أمره وخبره، وفوضه إليهم، وإلا حرفه عن مواضعه، وسمي تحريفه: تأويلا وحملا، فقال: نؤوله ونحمله فلئن يلقي العبد ربه بكل ذنب على الإطلاق - ما خلا الشرك بالله - خير له من إن يلقاه بهذه الحال.

ولقد خاطبت يوما بعض أكابر هؤلاء، فقلت له: سألتك بالله لو قدر إن الرسول صلى الله عليه وسلم حي بين أظهرنا، وقد واجهنا بكلامه وبخطابه، أكان فرضا علينا إن نتبعه من غير إن نعرضه على رأي غيره وكلامه ومذهبه، أم لا نتبعه حتى نعرض ما سمعناه منه على آراء الناس وعقولهم؟!

فقال: بل كان الفرض المبادرة إلى الامتثال من غير التفات إلى سواه، فقلت: فما الذي نسخ هذا الفرض عنا وبأي شيء نسخ؟! فوضع إصبعه علي فيه، وبقي باهتا متحيرا وما نطق بكلمة.

هذا أدب الخواص معه، لا مخالفة أمره والشرك به، ورفع الأصوات، وإزعاج الأعضاء بالصلاة عليه والتسليم (١)، وعزل كلامه عن اليقين، وان يستفاد منه معرفة الله أو يتلقى منه أحكامه ".ويقول: ((ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: إن يكون الله ورسوله احب إليه مما سواهما، وان يحب المرء لا يحبه إلا لله، وان يكره إن يعود إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره إن يلقى في النار) (٢).

وليست محبة الله ورسوله دعوى يمكن إن تلوكها ألسنة الزنادقة أو المبتدعين، أو شعارا يرفعه المنافقون، بل هي تحقيق توحيد الله وطاعته باتباع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فمحبته صلى الله عليه وسلم التي لا يكون العبد شاهدا إن محمدا رسول الله إلا بها لا تتحقق إلا باتباعه وتعزيره وتوقيره وتعظيم سنته والتخلي عن التقديم بين يدي أمره ونهيه - كما جاء في حديث: ((لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به)) (٣).

يقول الإمام ابن القيم في بيان هذا الأصل العظيم " اصل العبادة: محبة الله، وفيه، كما يحب أنبياءه ورسله وملائكته وأولياءه، فمحبتهم من تمام محبته، وليست محبة معه، كمحبة من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحبه.

وإذا كانت المحبة له هي حقيقة عبوديته وسرها، فهي إنما تتحقق باتباع آمره، واجتناب نهيه، فعند اتباع الأمر واجتناب النهى تتبين حقيقة العبودية والمحبة، ولهذا جعل تعالى اتباع رسوله علما عليها، وشاهدا لمن ادعاها، فقال تعالى: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ [آل عمران: ٣١].

فجعل اتباع رسوله مشروطا بمحبتهم لله، وشرطا لمحبة الله لهم، ووجود المشروط ممتنع بدون وجود شروطه، وتحققه بتحققه، فعلم انتفاء المحبة عند انتفاء المتابعة.

بل المعول في باب معرفة الله: على العقول المتهوكة المتحرية المتناقضة، وفى الأحكام: على تقليد الرجال وآرائها، والقران والسنة إنما نقرؤهما تبركا لا أنا نتلقى منها أصول الدين لا فروعه، ومن طلب ذلك ورامه عاديناه وسعينا في قطع دابره واستئصال شأفته " (٤).


(١) [٤٤٠٣] يقصد الإمام بذلك الرد على المتصوفة وما يفعلونه في الموالد وغيرها.
(٢) [٤٤٠٤] رواه البخاري ومسلم رقم ٤٣
(٣) [٤٤٠٥] انظر الكلام عن سنده في ((جامع العلوم والحكم)).
(٤) [٤٤٠٦] ((المدارج)) (٢/ ٣٨٧ – ٣٨٨)

<<  <  ج: ص:  >  >>