والعبادة تتضمن كمال الحب ونهايته وكمال الذل ونهايته، فالمحبوب الذي لا يعظم ولا يذل له لا يكون معبودا، والمعظم الذي لا يحب لا يكون معبودا، ولهذا قال تعالى:
وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ [البقرة:١٦٥].
فبين سبحانه إن المشركين بربهم الذين يتخذون من دون الله أندادا - وان كانوا يحبونهم كما يحبون الله، فالذين آمنوا اشد حبا لله منهم لله ولأوثانهم، لان المؤمنين اعلم بالله، والحب يتبع العلم، ولان المؤمنين جعلوا جميع حبهم لله وحده وأولئك جعلوا بعض حبهم لغيره وأشركوا بينه وبين الأنداد في الحب، ومعلوم إن ذلك اكمل - قال تعالى:
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلًا فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [الزمر:٢٩].
واسم المحبة فيه إطلاق وعموم، فإن المؤمن يحب الله ويحب رسله وأنبياءه وعباده المؤمنين، وإن كان ذلك من محبة الله، وإن كانت المحبة التي لله لا يستحقها غيره، ولهذا جاءت محبة الله سبحانه وتعالى مذكورة بما يختص به سبحانه من العبادة، والإنابة إليه، والتبتل له ونحو ذلك، فكل هذه الأسماء تتضمن محبة الله سبحانه وتعالى.
ثم انه كما بين إن محبته اصل الدين، فقد بين إن كمال الدين بكمالها، ونقصه بنقصها، فان النبي صلي الله عليه وسلم قال: ((رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله))، فأخبر أن الجهاد ذروة سنام العمل، وهو أعلاه وأشرفه، وقد قال تعالى: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللهِ [التوبة:١٩] إلى قوله: أَجْرٌ عَظِيمٌ [التوبة:٢٢] والنصوص في فضائل الجهاد وأهله كثيرة.
وقد ثبت انه افضل ما تطوع به العبد، والجهاد دليل المحبة الكاملة، قال تعالى قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ [التوبة:٢٤] الآية.
وقال تعالى في صفة المحبين والمحبوبين:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ [المائدة:٥٤].
فوصف المحبوبين المحبين بإنهم أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، وأنهم يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم، فإن المحبة مستلزمة للجهاد لأن المحب يحب ما يحب محبوبه، ويبغض ما يبغض محبوبه، ويولى من يواليه، ويعادى من يعاديه، ويرضى لرضاه، ويغضب لغضبه، ويأمر بما يأمر به، وينهى عما ينهى عنه، فهو موافق له في ذلك، وهؤلاء هم الذين يرضى الرب لرضاهم، ويغضب لغضبهم، إذ إنما يرضون لرضاه، ويغضبون لما يغضب له " (١).
أقول: شيخ الإسلام هنا يلتفت للرد على مزاعم الصوفية المدعية للحب الكامل والولاية لله - مع تركهم الجهاد والعمل، والله تعالى أخبر أنه - إنما يكره ذلك المنافقون فقال:
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ [التوبة:٨١].
فالكارهون للجهاد لا يمكن أبدا أن يكونوا محبين لله ورسوله ولا أولياء له ولرسوله.
(١) [٤٤٠٩] انظر ((التحفة العراقية)).