للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

٤ - إخراج أعمال الجوارح من الإيمان: يقول شيخ الإسلام: "وأما الجهمية، فهم يجعلونه - يعني الإيمان - تصديق القلب، فلا تكون الشهادتان، ولا الصلاة، ولا الزكاة، ولا غيرهن من الإيمان" (١).ويقول: "وزعم جهم ومن وافقه أنه يكون مؤمنا في الباطن، وأن مجرد معرفة القلب وتصديقه يكون إيمانا يوجب الثواب يوم القيامة، بلا قول، ولا عمل ظاهر" (٢).

وهذا لا يعني أنهم لا يوجبون العمل، لكنهم لا يعدونه من الإيمان، وتقدم تقريبا أنهم يرون أن من لم يطع الله طاعة ظاهرة، مع وجوب ذلك عليه وقدرته عليه، أنه مؤمن تام الإيمان.

فهم يوجبون الأعمال الظاهرة، ويعتقدون نفعها، لكن من لم يأت بها فإيمانه تام.

يقول شيخ الإسلام: "وكذلك الجهمية لا تجد في قلوبهم من محبة الله وعبادته ما في قلوب عباده المؤمنين، بل غاية عابدهم أن يعتقد أن العباد من جنس الفعلة الذين يعملون بالكراء، فمنتهى مقصوده هو الكراء الذي يعطاه وهو فارغ من محبة الله.

والفلاسفة تذم هؤلاء - يعني الجهمية - وتحتقرهم، كما ذكرنا كلامهم في ذلك في غير هذا الموضع. لكن هؤلاء - يعني الجهمية - خير منهم في الجملة، فإنهم يوجبون العبادة، ويلتزمونها، ويعتقدون لها منفعة غير مجرد كونها سببا للعلم، بخلاف الفلاسفة والمتصوفة والمتفلسفة" (٣).ويقول: "والأمة كلها متفقة على وجوب الأعمال التي فرضها الله، لم يقل أحد بأنها ليست من الواجبات، وإن كان طائفة من الناس نازعوا في كون الأعمال من الإيمان، فلم ينازعوا في أن الله فرض الصلوات الخمس وغيرها من شرائع الإسلام، وحرم الفواحش" (٤).

ومع ذلك، فقد لفت شيخ الإسلام النظر إلى مدى مشابهة الجهمية في مقالتهم هذه في الإيمان، بما عليه الفلاسفة، حينما حصروا السعادة بمجرد العلم. يقول شيخ الإسلام: "قول جهم ومن وافقه إن الإيمان مجرد العلم والتصديق، وهو بذلك وحده يستحق الثواب والسعادة، يشبه قول من قال من الفلاسفة المشائين وأتباعهم إن سعادة الإنسان في مجرد أن يعلم الوجود على ما هو عليه، ... ، وليس صلاح الإنسان في مجرد أن يعلم الحق دون ألا يحبه ويريده ويتبعه، كما أنه ليس سعادته في أن يكون عالما بالله مقرا بما يستحق دون أن يكون محبا لله، عابدا لله، مطيعا لله، بل أشد الناس عذابا يوم القايمة عالم لم ينفعه الله بعلمه" (٥).

ويقول في معرض بيان وجوه ضلال الفلاسفة: "وهؤلاء ضالون، بل كافرون من جوه:

منها: أنهم اعتقدوا الكمال من مجرد العلم، كما اعتقد جهم، والصالحي، والأشعري - في المشهور من قوليه -، وأكثر أتباعه: أن الإيمان مجرد العلم، لكن الفلاسفة أسوأ حالا من الجهمية، فإن الجهمية يجعلون الإيمان هو العلم بالله، وأولئك يجعلون كمال النفس في أن تعلم الوجود المطلق من حيث هو وجود، ... ،


(١) ((الإيمان)) (ص١٤٨) ((الفتاوى)) (٧/ ١٥٤).
(٢) ((الفتاوى)) (١٤/ ١٢١).
(٣) ((الصفدية)) (٢/ ٢٣٥)؛ وانظر: ((الفتاوى)) (١٣/ ١٠١).
(٤) ((الفتاوى)) (١٧/ ١٠٥).
(٥) ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (٧/ ٥٨٥ - ٥٨٦)، (ص٤٩٦ - ٤٩٧) ط. ابن الجوزي، وانظر منه (٧/ ٥٩٦ - ٥٩٧)، (ص٥١٨ - ٥١٩) ط. ابن الجوزي؛ و ((الصفدية)) (٢/ ٢٣٣ - ٢٣٤)؛ و ((الجواب الصحيح)) (٦/ ٣٥ - ٣٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>