للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فإنهم قالوا: هذا كفر في الظاهر، وأما في الباطن، فلا يكون كفرا إلا إذا استلزم الجهل، بحيث لا يبقى في القلب شيء من التصديق بالرب. وهذا بناء على أن الإيمان في القلب لا يتفاضل، ولا يكون في القلب بعض من الإيمان" (١).

وخلاصة قول الجهمية في الإيمان أنهم يحصرونه في مجرد المعرفة، ويخرجون منه عمل القلب، وقول اللسان، وعمل الجوارح.

وأن من لم يأت بالشهادتين، أو أتى بكل مكفر، من غير إكراه، فهو كافر في الظاهر، مع احتمال كونه مؤمنا في الباطن، إذ لا يتصور ذهاب الإيمان عندهم إلا بذهاب المعرفة من القلب. وهذا المقالة الجهمية في مسمى الإيمان تقوم على أصلين من الضلال هما (٢):

الأول: ظنهم أن الإيمان مجرد تصديق وعلم فقط، ليس معه عمل وحال وحركة وإرادة، ومحبة وخشية في القلب، وبالتالي يكون الإيمان تاما بدون شيء من الأعمال الباطنة والظاهرة. وهذا الظن مبني على تصور فاسد لحقيقة الإيمان، وسيأتي بعون الله تعالى تحقيق القول بأنه يمتنع غاية الامتناع حصول أحد أجزاء الإيمان مع تخلف بقيتها، وأنه إذا وجد قول القلب فلابد من حصول عمله إذا سلم من المعارض، ووجود قول القلب وعمله يلزم منه ضرورة وجود الظاهر قولا وعملا (٣).

الثاني: ظنهم أن كل من حكم الشارع بأنه كفر مخلد في النار؛ فإنما ذاك لأنه لم يكن في قلبه شيء من العلم والتصديق.

وهذا الظن باطل من وجهين:

الوجه الأول: أنه أمر مخالف للشرع، والعقل، والحسن، وإجماع العقلاء. يقول شيخ الإسلام رحمه الله بعد أن ذكر أن من أغلاط الجهمية ظنهم أن من حكم الله بكفرهم؛ فلزوال التصديق من قلوبهم، قال: "وهذا مكابرة للعقل، والحسن" (٤).

وقال: "وهذا أمر خالفوا به الحس، والعقل، والشرع، وما أجمع عليه طوائف بني آدم السليمي الفطرة، وجماهير النظار.

فإن الإنسان قد يعرف أن الحق مع غيره، ومع ذلك يجحد ذلك؛ لحسده إياه، أو لطلب علوه عليه، أو لهوى النفس، ويحمله ذلك الهوى أن يعتدي عليه، ويرد ما يقول بكل طريق، وهو في قلبه يعلم أن الحق معه.

وعامة من كذب الرسل يعلم أن الحق معهم، وأنهم صادقون؛ لكن إما لحسدهم، وإما لإرادتهم العلو والرياسة، وإما لحبهم دينهم الذي كانوا عليه، وما يحصل لهم به من الأغراض، كأموال ورياسة وصداقة وغير ذلك، فيرون في أتباع الرسل ترك الأهواء المحبوبة إليهم، أو حصول أمور مكروهة إليهم، فيكذبونهم ويعادونهم، فيكونون من أكفر الناس، كإبليس وفرعون، مع علمهم بأنهم على الباطل، والرسل على الحق.


(١) ((منهاج السنة)) (٥/ ٢٥١ - ٢٥٢).
(٢) انظر: ((الإيمان)) (ص١٧٩ - ١٨٠) ((الفتاوى)) (٧/ ١٩٠ - ١٩١)، ونحوه في (ص١٩٢)، ٣٤٧) ((الفتاوى)) (٧/ ٢٠٤)، (٣٦٣ - ٣٦٤)؛ وفي ((الإيمان الأوسط))، ضمن ((الفتاوى)) (٧/ ٥٥٤)، (٥٨٣ - ٥٨٤)، (ص٤٤٦، ٤٩٣ - ٤٩٤) ط. ابن الجوزي؛ و ((الرد على المنطقيين))، (ص١٤٦)؛ و ((الفتاوى)) (٩/ ١٣٧)؛ والمقصود هنا ما ترتب على المقالة الجهمية من ضلال في مسمى الإيمان، وأما في مسائل الإيمان الأخرى، فتبيانه والبحث فيه في موضعه من الكتاب بإذن الله تعالى.
(٣) انظر: نقض الحجة الخامسة من حجج المرجئة.
(٤) ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (٧/ ٥٨٣)، (ص٤٩٣) ط. ابن الجوزي.

<<  <  ج: ص:  >  >>