للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حيث ظنوا أنه قد يكون الإنسان مؤمنا كامل الإيمان بقلبه، وهو مع هذا يسب الله ورسوله، ويعادي الله ورسوله، ويعادي أولياء الله، ويوالي أعداء الله، ويقتل الأنبياء، ويهدم المساجد، ويهين المصاحف، ويكرم الكفار غاية الكرامة، ويهين المؤمنين غاية الإهانة.

قالوا: وهذه كلها معاص لا تنافي الإيمان الذي في قلبه، بل يفعل هذا وهو في الباطن عند الله مؤمن.

قالوا: وإنما ثبت له في الدنيا أحكام الكفار؛ لأن هذه الأقوال أمارة على الكفر؛ ليحكم بالظاهر كما يحكم بالإقرار والشهود، وإن كان في الباطن قد يكون بخلاف ما أقرب به، وبخلاف ما شهد به الشهود.

فإذا أورد عليهم الكتاب والسنة والإجماع على أن الواحد من هؤلاء كافر في نفس الأمر، معذب في الآخرة؟

قالوا: فهذا دليل على انتفاء التصديق والعلم من قلبه. فالكفر عندهم شيء واحد وهو الجهل، والإيمان شيء واحد وهو العلم، أو هو تكذيب القلب وتصديقه" (١).وقال شيخ الإسلام: "ولم يكف الجهمية أن جعلوا كل كافر جاهلا بالحق حتى قالوا: هو لا يعرف أن الله موجود حق، والكفر عندهم ليس هو الجهل بأي حق كان، بل الجهل بهذا الحق المعين" (٢).

ويقول: "فهؤلاء القائلون بقول جهم، والصالحي قد صرحوا بأن سب الله ورسوله، والتكلم بالتثليث، وكل كلمة من كلام الكفر ليس هو كفرا في الباطن، ولكنه دليل في الظاهر على الكفر، ويجوز مع هذا أن يكون هذا الساب الشاتم في الباطن عارفا بالله، موحدا له، مؤمنا به.

فإذا أقيمت عليهم حجة بنص أو إجماع أن هذا كافر باطنا وظاهرا. قالوا: هذا يقتضي أن ذلك مستلزم للتكذيب الباطن، وأن الإيمان عدم ذلك" (٣).فالجهمية وإن قالوا إن الكفر عدم الإيمان، سواء اعتقد نقيضه وتكلم به أو لم يعتقد شيئا ولم يتكلم، وأن من لم يؤمن بعد قيام الحجة عليه بالرسالة، فهو كافر، سواء كان مكذبا، أو مرتابا، أو معرضا، أو مستكبرا، أو مترددا، أو غير ذلك (٤)، إلا أنهم ردوا ذلك كله إلى زوال التصديق من القلب. و "جعلوا ما علم أن صاحبه كافر، مثل إبليس، وفرعون، واليهود، وأبي طالب، وغيرهم، أنه إنما كان كافرا؛ لأن ذلك مستلزم لعدم تصديقه في الباطن" (٥).و "جعلوا ما يوجد من المتكلم بالكفر من سب الله ورسوله، والتثليث، وغير ذلك قد يكون مجامعا للإيمان الذي في القلب، ويكون صاحبه مؤمنا عند الله حقيقة، سعيدا في الدار الآخرة" (٦).

"وقالوا: لو فعل ما فعل من الأفعال الظاهرة لم يكن بذلك كافرا في الباطن، لكن يكون دليلا على الكفر في أحكام الدنيا.

فإذا احتج عليهم بنصوص تقتضي أنه يكون كافرا في الآخرة. قالوا: فهذه النصوص تدل على أنه في الباطن ليس معه من معرفة الله شيء" (٧)."وقالوا: حيث حكم الشارع بكفر أحد بعمل أو قول؛ فلكونه دليلا على انتفاء ما في القلب" (٨).

قال شيخ الإسلام: "ولا ريب أن الكفر متعلق بالرسالة، فتكذيب الرسول كفر، وبغضه كفر، وسبه وعداوته مع العلم بصدقه في الباطن كفر، عند الصحابة، والتابعين لهم بإحسان، وأئمة العلم، وسائر الطوائف إلا الجهم، ومن وافقه، كالصالحي، والأشعري، وغيرهم.


(١) ((الإيمان)) (ص١٧٨) ((الفتاوى)) (٧/ ١٨٨) ..
(٢) ((الإيمان)) (ص١٨٢) ((الفتاوى)) (٧/ ١٩٣).
(٣) ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (٧/ ٥٥٧)، (ص٤٤٩) ط. ابن الجوزي.
(٤) انظر: ((الفتاوى)) (٢٠/ ٨٦ - ٨٧).
(٥) ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (٧/ ٥٨٣)، (ص٤٩٣) ط. ابن الجوزي.
(٦) ((الإيمان الأوسط))، ضمن ((الفتاوى)) (٧/ ٥٨٣)، (ص٤٩٤) ط. ابن الجوزي.
(٧) ((الإيمان)) (ص ٣٨٤ - ٣٨٥) ((الفتاوى)) (٧/ ٤٠١ - ٤٠٢)؛ وانظر منه، (ص١٤١، ٤٢٠) ((الفتاوى)) (٧/ ١٤٦، ٤٤٠).
(٨) ((الفتاوى)) (٧/ ٦٤٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>