للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد ذكر الله كلمات الكفار في القرآن، وحكم بكفرهم، واستحقاقهم الوعيد بها، ولو كانت أقوالهم الكفرية بمنزلة شهادة الشهود عليهم، أو بمنزلة الإقرار الذي يغلط فيه المقر، لم يجعلهم الله من أهل الوعيد بالشهادة التي قد تكون صدقا، وقد تكون كذبا، بل كان ينبغي أن لا يعذبهم إلا بشرط صدق الشهادة. وهذا كقوله تعالى: لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ [المائدة: ٧٣]، وقوله تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ [المائدة: ٧٢] وأمثال ذلك" (١).وقال رحمه الله: "فمن قال، أو فعل ما هو كفر، كفر بذلك، وإن لم يقصد أن يكون كفرا، إذ لا يقصد الكفر أحد إلا ما شاء الله" (٢).

وقد علل شيخ الإسلام ذلك بأن "كلمتي الكفر والإيمان إذا قصد الإنسان بهما غير حقيقتهما صح كفره، ولم يصح إيمانه. فإن المنافق قصد بالإيمان مصالح دنياه من غير حقيقة لمقصود الكلمة، فلم يصح إيمانه، والرجل لو تكلم بكلمة الكفر لمصالح دنياه من غير اعتقاد صح كفره ظاهرا وباطنا، وذلك لأن العبد مأمور بأن يتكلم بكلمة الإيمان معتقدا لحقيقتها، وأن لا يتكلم بكلمة الكفر أو الكذب جادا ولا هازلا، فإن تكلم بكلمة الكفر أو الكذب جادا أو هازلا كان كافرا وكان كاذبا حقيقة؛ لأن الهزل بهذه الكلمات غير مباح، فيكون وصف الهزل مهدرا في نظر الشرع؛ لأنه محرم، فتبقى الكلمة موجبة لمقتضاها" (٣).

الوجه الثاني: في بطلان قول الجهمية إن الكافر ليس في قلبه شيء من العلم والتصديق هو أن هذا القول الجهمي متناقض.

وقد شرح شيخ الإسلام وجه تناقضه، فقال:

"حتى آل الأمر بغلاتهم، كجهم وأتباعه، إلى أن قالوا: يمكن أن يصدق بقلبه، ولا يظهر بلسانه إلا كلمة الكفر، مع قدرته على إظهارها، فيكون الذي في القلب إيمانا نافعا له في الآخرة.

وقالوا: حيث حكم الشارع بكفر أحد بعمل أو قول؛ فلكونه دليلا على انتفاء ما في القلب، وقولهم متناقض:

فإنه إذا كان ذلك دليلا مستلزما لانتفاء الإيمان الذي في القلب، امتنع أن يكون الإيمان ثابتا في القلب، مع الدليل المستلزم لنفيه. وإن لم يكن دليلا، لم يجز الاستدلال به على الكفر الباطن" (٤).وأخيراً، فإن ما تقدم من أجوبة في تناقض المقالة الجهمية "إذا تدبرها المؤمن بعقله تبين له أن مذهب السلف هو المذهب الحق الذي لا عدول عنه، وأن من خالفهم لزمه فساد معلوم بصريح المعقول، وصحيح المنقول، كسائر ما يلزم الأقوال المخالفة لأقوال السلف والأئمة، والله أعلم" (٥).

المصدر:آراء المرجئة في مصنفات شيخ الإسلام ابن تيمية لعبدالله محمد السند - ص ١٩٧


(١) ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (٧/ ٥٥٧ - ٥٥٨)، (ص٤٤٩) ط. ابن الجوزي.
(٢) ((الصارم المسلول)) (٢/ ٣٣٩).
(٣) ((بيان الدليل))، (ص١٦٦).
(٤) ((الفتاوى)) (٧/ ٦٤٤ - ٦٤٥).
(٥) ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (٧/ ٥٨٥)، (ص٤٩٦) ط. ابن الجوزي.

<<  <  ج: ص:  >  >>