للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قيل: وهذا موافق لأولها، فإنه من كفر من غير إكراه، فقد شر بالكفر صدرا، وإلا تناقض أول الآية وآخرها، ولو كان المراد بمن كفر هو الشارح صدره، وذلك يكون بلا إكراه، لم يستثن المكره فقط، بل كان يجب أن يستثني المكره وغير المكره إذا لم يشرح صدره، وإذا تكلم بكلمة الكفر طوعا، فقد شرح بها صدرا وهي كفر.

وقد دل على ذلك قوله تعالى: يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ [التوبة: ٦٤ - ٦٦].فقد أخبر أنهم كفروا بعد إيمانهم مع قولهم إنما تكلمنا بالكفر من غير اعتقاد له، بل كنا نخوض ونلعب، وبين أن الاستهزاء بآيات الله كفر، ولا يكون هذا إلا من شرح صدره بهذا الكلام، ولو كان الإيمان في قلبه منعه أن يتكلم بهذا الكلام" (١).

وقال أيضاً: "وقول من يقول عن مثل هذه الآيات: إنهم كفروا بعد إيمانهم بلسانهم، مع كفرهم أولاً بقلوبهم، لا يصح.

لأن هذا الإيمان باللسان مع كفر القلب قد قارنه الكفر، فلا يقال: قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة: ٦٦]، فإنهم لم يزالوا كافرين في نفس الأمر.

وإن أريد أنكم أظهرتم الكفر بعد إظهاركم الإيمان، فهم لم يظهروا للناس إلا لخواصهم، وهم مع خواصهم مازالوا هكذا، بل لما نافقوا وحذروا أن تنزل سورة تبين ما في قلوبهم من النفاق، وتكلموا بالاستهزاء صاروا كافرين بعد إيمانهم، ولا يدل اللفظ على أنهما مازالوا منافقين ثم قال شيخ الإسلام:"قال تعالى: وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ [التوبة: ٦٥]: فاعترفوا واعتذروا، ولهذا قيل: لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ [التوبة: ٦٥]، فدل على أنهم لم يكونوا عند أنفسهم قد أتوا كفرا، بل ظنوا أن ذلك ليس بكفر، فبين أن الاستهزاء بالله وآياته ورسوله كفر يكفر به صاحبه بعد إيمانه، فدل على أنه كان عندهم إيمان ضعيف، ففعلوا هذا المحرم الذي عرفوا أنه محرم، ولكنهم لم يظنوه كفرا، وكان كفرا كفروا به، فإنهم لم يعتقدوا جوازه" (٢).

وهذا أصل مهم في باب الكفر اعتنى شيخ الإسلام بإيضاحه غاية الإيضاح، وبين أن "من قال بلسانه كلمة الكفر من غير حاجة، عامدا لها، عالما بأنها كلمة كفر، فإنه يكفر بذلك ظاهرا وباطنا. ولا يجوز أن يقول: إنه في الباطن يجوز أن يكون مؤمنا، ومن قال ذلك فقد مرق من الإسلام" (٣).

وقال شيخ الإسلام: "فإنا نعلم أن من سب الله ورسوله طوعا بغير كره، بل من تكلم بكلمات الكفر طائعا غير مكره، ومن استهزأ بالله وآياته ورسوله، فهو كافر باطنا وظاهرا.

وأن من قال إن مثل هذا قد يكون في الباطن مؤمنا بالله، وإنما هو كافر في الظاهر، فإنه قال قولا معلوم الفساد بالضرورة من الدين.


(١) ((الإيمان)) (ص٢٠٨) ((الفتاوى)) (٧/ ٢٢٠)؛ وانظر: ((الاستقامة)) (٢/ ٣١٩ - ٣٢٠).
(٢) ((الإيمان)) (ص٢٥٩ - ٢٦٠) " ((الفتاوى)) (٧/ ٢٧٢ - ٢٧٣).
(٣) ((الصارم المسلول)) (٣/ ٩٧٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>