للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومن النصوص التي اعتنى شيخ الإسلام ببيان دلالتها على هذه الحقيقة، وهي أن الكفر يقع مع وجود التصديق في القلب قوله تعالى: مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرونَ [النحل: ١٠٦ - ١٠٩]، وقوله تعالى: يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ [التوبة: ٦٤ - ٦٦].

يقول شيخ الإسلام في بيان دلالتهما على المراد:

"فقد ذكر تعالى من كفر بالله بعد إيمانه، وذكر وعيد الآخرة، ثم قال: ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ [النحل: ١٠٧]، وبين تعالى أن الوعيد استحقوه بهذا، ومعلوم أن باب التصديق والتكذيب، والعلم والجهل ليس هو من باب الحب والبغض، وهؤلاء يقولون إنما استحقوا الوعيد لزوال التصديق والإيمان من قلوبهم، وإن كان ذلك قد يكون سببه حب الدنيا على الآخرة.

والله سبحانه وتعالى جعل استحباب الدنيا على الآخرة هو الأصل الموجب للخسران، واستحباب الدنيا على الآخرة قد يكون مع العلم والتصديق بأن الكفر يضر في الآخرة، وبأنه ما له في الآخرة من خلاق.

وأيضا فإنه سبحانه استثنى المكره من الكفار، ولو كان الكفر لا يكون إلا بتكذيب القلب وجهله لم يستثن المكره؛ لأن الإكراه على ذلك ممتنع، فعلم أن التكلم بالكفر كفر لا في حال الإكراه.

وقوله تعالى: وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا [النحل: ١٠٦]، أي: لاستحبابه الدنيا على الآخرة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم، ((يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، ويصبح كافرا ويمسي مؤمنا، يبيع دينه بعرض من الدنيا)) (٢).والآية نزلت في عمار بن ياسر، وبلال بن رباح وأمثالهما من المؤمنين المستضعفين لما أكرههم المشركون على سب النبي صلى الله عليه وسلم، ونحو ذلك من كلمات الكفر فمنهم من أجاب بلسانه كعمار، ومنهم من صبر على المحنة كبلال (١)، ولم يكره أحد منهم على خلاف ما في قلبه، بل أكرهوا على التكلم، فمن تكلم بدون الإكراه لم يتكلم إلا وصدره منشرح به" (٢).

ويقول شيخ الإسلام: "وهذا الآية - يعني آية النحل - مما تدل على فساد قول جهم، فإنه جعل من تكلم بالكفر من أهل وعيد الكفار، إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان.

فإن قيل: فقد قال تعالى: وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا [النحل: ١٠٦]


(١) انظر: ((تفسير الطبري)) (١٤/ ٢١٦)؛ و ((زاد المسير)) (٤/ ٤٩٥)؛ و ((تفسير ابن كثير)) (٢/ ٦٤٧ - ٦٤٨)؛ و ((الدر المنثور)) (٥/ ١٦٩ - ١٧١).
(٢) ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (٧/ ٥٦٠ - ٥٦١)، (ص٤٥٢ - ٤٥٤) ط. ابن الجوزي؛ وانظر: ((منهاج السنة)) (٤/ ٤٤٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>