للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهذا الجواب سيأتي بعون الله عرضه مفصلا في نقض هذه الشبهة الإرجائية، والمقصود هنا تبيان مبلغ موافقة الأشاعرة للجهمية في مسمى الإيمان، وأنه لم يخرجهم من هذه الموافقة ما جاء عنهم من اضطراب في تفسير التصديق، أو ما أضافوه من شروط إلى التصديق.

فأما ما أضافوه من شروط، فمرده يعود إلى قول الجهمية، وأنه لا كفر إلا بزوال التصديق من القلب.

وأما ما فسروا به التصديق، وأنه المعرفة، أو هو قول النفس المتضمن للمعرفة، أو هو العلم، أو كلام النفس، ولا يثبت إلا بالعلم.

فالذي اشتهر عنهم هو دعوى التفريق بين المعرفة والتصديق، ومع ذلك فإنهم لا يسلمون من النقد الكاشف لفساد مقالتهم. يقول شيخ الإسلام: "والأشعري وأصحابه يفرقون بين معرفة القلب وبين تصديق القلب، فإن تصديق القلب قوله، وقول القلب عندهم ليس هو العلم، بل نوعا آخر" (١)، ثم قال في نقد ذلك:

"فإن الفرق بين معرفة القلب وبين مجرد تصديق القلب الخالي عن الانقياد - الذي يجعل قول القلب - أمر دقيق، وأكثر العقلاء ينكرونه، وبتقدير صحته لا يجب على كل أحد أن يوجب شيئين لا يتصور الفرق بينهما.

وأكثر الناس لا يتصورون الفرق بين معرفة القلب وتصديقه، ويقولون إن ما قاله ابن كلاب والأشعري من الفرق كلام باطل لا حقيقة له، وكثير من أصحابه اعترف بعدم الفرق. وعمدتهم من الحجة إنما هو خبر الكاذب، قالوا: ففي قلبه خبر بخلاف علمه، فدل على الفرق (٢).

فقال لهم الناس: ذاك بتقدير خبر وعلم ليس هو علما حقيقيا، ولا خبرا حقيقيا، ولما أثبتوه من قول القلب المخالف للعلم والإرادة، إنما يعود إلى تقدير علوم وإرادات، لا إلى جنس آخر يخالفها.

ولهذا قالوا: إن الإنسان لا يمكنه أن يقوم بقلبه خبر بخلاف علمه، وإنما يمكنه أن يقول ذلك بلسانه، وأما أن يقوم بقلبه خبر بخلاف ما يعلمه، فهذا غير ممكن"، ثم أطال شيخ الإسلام في شرح ذلك، وختم ذلك بقوله:"والمقصود هنا أن الإنسان إذا رجع على نفسه عسر عليه التفريق بين علمه بأن الرسول صادق وبين تصديق قلبه تصديقا مجردا عن انقياد وغيره من أعمال القلب بأنه صادق" (٣).

وبعد هذا التحقيق، وبيان ضعف ما اعتمده الأشاعرة في كون الإيمان هو التصديق، يرد عليهم وجه آخر يزيد قولهم ضعفا، وهو أن الإيمان إن صح أنه التصديق، فهو في كونه دليلا على قول الكرامية وفقهاء المرجئة أولى من أن يكون دليلا على قولهم الذي وافقوا فيه الجهمية.

يقول شيخ الإسلام رحمه الله شارحا ذلك: "ومما يعارضون به أن يقال:

هذا الذي ذكرتموه إن كان صحيحا، فهو أدل على قول المرجئة، بل على قول الكرامية منه على قولكم.

وذلك أن الإيمان إن كان كما ذكرتم، فالتصديق نوع من أنواع الكلام، فاستعمال لفظ الكلام والقول ونحو ذلك في المعنى واللفظ، بل في اللفظ الدال على المعنى أكثر في اللغة من استعماله في المعنى المجرد عن اللفظ، بل لا يوجد قط إطلاق اسم الكلام ولا أنواعه، كالخبر أو التصديق والتكذيب والأمر والنهي على مجرد المعنى من غير شيء يقترن به من عبارة ولا إشارة ولا غيرهما، وإنما يستعمل مقيدا.

وإذا كان الله إنما أنزل القرآن بلغة العرب، فهي لا تعرف التصديق والتكذيب وغيرهما من الأقوال، إلا ما كان معنى ولفظا، أو لفظا يدل على معنى.

ولهذا لم يجعل الله أحدا مصدقا للرسل، بمجرد العلم والتصديق الذي في قلوبهم حتى يصدقوهم بألسنتهم.


(١) ((الإيمان)) (ص٣٧٩) ((الفتاوى)) (٧/ ٣٩٦).
(٢) وقد أقر بعض الأشاعرة – كالرازي – بفساد هذه الحجة. انظر: ((التسعينية)) (٢/ ٦٤١ - ٦٤٢).
(٣) ((الإيمان)) (ص٣٨١ - ٣٨٣) ((الفتاوى)) (٧/ ٣٩٨ - ٤٠٠)؛ وانظر: ((التسعينية)) (٢/ ٦٦١).

<<  <  ج: ص:  >  >>