للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقال شيخ الإسلام أيضا: "وإنما الغرض بيان ما ذكره الاسفراييني من أن التصديق لا يتحقق إلا بالمعرفة والإقرار، وإن كان أراد المعرفة كما قرره هو من قواعده، ولم يحل ذلك على ما جاء به الرسول من أصول الإيمان. فإذا كان التصديق لا يتحقق إلا بالمعرفة وبالإقرار أيضا باللسان كان هذا من كلامهم دليلا على امتناع وجود التصديق بالقلب وتحققه إلا مع الإقرار باللسان، وهذا يناقض قولهم إن الكلام مجرد ما يقوم بالنفس، فهذه مناقضة ثابتة، فإن التصديق الذي في القلب إن تحقق بدون لفظ بطل هذا، وإن لم يتحقق إلا بلفظ أو ما يقوم مقامه بطل ذاك" (١)، ثم استمر رحمه الله في شرح ذلك.

ثامناً: قال الرازي: "قد نقلنا عن الشافعي رضي الله عنه أن الإيمان قول وعمل واعتقاد.

وقال المتكلمون: الإيمان ليس إلا التصديق بالقلب، واحتجوا بوجوه"، ثم ذكرها، ثم قال:

"واعلم أن قول الشافعي لا يمكن جعله من المعايب، فإن الذي ذهب إليه مذهب قوي في الاستدلال والاحتجاج، إلا أن الذي اختاره علماء الأول من أصحابنا هو هذا القول الثاني.

واعلم أن القوم قد يقررون العيب من وجه آخر، فيقولون: قد تقرر في بدائه العقول أن مسمى الشيء إذ كان مجموع أشياء، فعند فوات تلك الأشياء لابد أن يفوت المسمى، فلو كان العمل جزء مسمى الإيمان، لكان عند فوات العمل وجب أن لا يبقى الإيمان، لكن الشافعي رضي الله عنه يقول: العمل داخل في مسمى الإيمان، ثم يقول: الإيمان باق مع فوات العمل، فكان هذا مناقضة"، ثم ذكر قول المعتزلة، ثم قال:

"وللشافعي أن يجيب، فيقول: الأصل في الإيمان هو الإقرار والاعتقاد، فأما الأعمال فإنها من ثمرات الإيمان وتوابعه، وتوابع الشيء قد يطلق عليها اسم الأصل على سبيل المجاز، وإن كان يبقى الاسم مع فوات تلك التوابع، كما أن أغصان الشجرة قد يقال: إنها من الشجرة، مع أن اسم الشجرة باق بعد فناء الأغصان، فكذلك ها هنا. واعلم أن هذا التقدير يكون اسم الإيمان حقيقة في الإقرار والاعتقاد، ويكون إلطاق اسم الإيمان على الأعمال ليس إلا على سبيل المجاز، وفيه ترك لذلك المذهب" (٢).

هذه الجملة التي أوردها الرازي أشار إليها شيخ الإسلام رحمه الله، وعلق عليها بقوله: "والرازي لما صنف مناقب الشافعي ذكر قوله في الإيمان - وقول الشافعي قول الصحابة والتابعين، وقد ذكر الشافعي أنه إجماع من الصحابة والتابعين ومن لقيه - استشكل قول الشافعي جدا؛ لأنه كان قد انعقد في نفسه شبهة أهل البدع في الإيمان من الخوارج والمعتزلة والجهمية والكرامية وسائر المرجئة، وهو أن الشيء المركب إذا زال بعض أجزائه لزم زواله كله، لكن هو لم يذكر إلا ظاهر شبهتهم، والجواب عما ذكروه سهل، فإنه يسلم له أن الهيئة الاجتماعية لم تبق مجتمعة كما كانت، لكن لا يلزم من زوال بعضها زوال سائر الأجزاء. والشافعي مع الصحابة والتابعين وسائر السلف يقولون: إن الذنب يقدح في كمال الإيمان، ولهذا نفى الشارع الإيمان عن هؤلاء، فذلك المجموع الذي هو الإيمان لم يبق مجموعا مع الذنوب، لكن يقولون: بقي بعضه، إما أصله، وإما أكثره، وإما غير ذلك فيعود الكلام إلى أنه يذهب بعضه ويبقى بعضه" (٣).


(١) ((التسعينية)) (٢/ ٦٦١).
(٢) ((مناقب الشافعي))، للرازي، (ص١٤٥ - ١٤٧)، وانظر: ((معالم أصول الدين))، له، (ص١٣٣ - ١٣٥).
(٣) ((الإيمان)) (ص٣٨٦ – ٣٨٧) ((الفتاوى)) (٧/ ٤٠٣ – ٤٠٤)؛ وانظر: ((الإيمان الأوسط))، ضمن ((الفتاوى)) (٧/ ٥١١ ٣٨٤ - ٣٨٥) ط. ابن الجوزي.

<<  <  ج: ص:  >  >>