للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأما الجواب الثاني: وهو لو صح وجود المجاز، فما الحقيقة والمجاز في لفظ الإيمان؟ هل الحقيقة هي دخول العمل فيه، والمجاز خروجها منه، أو العكس (١)؟

وقد حرر شيخ الإسلام هذا الجواب في ثلاثة وجوه:

أولا: قال شيخ الإسلام مخاطبا المرجئة: "إن صح - يعني وجود الحقيقة والمجاز - فهذا لا ينفعكم، بل هو عليكم لا لكم.

لأن الحقيقة هي اللفظ الذي يدل بإطلاقه بلا قرينة، والمجاز إنما يدل بقرينة.

وقد تبين أن لف

الإيمان حيث أطلق في الكتاب والسنة دخلت فيه الأعمال، وإنما يدعى خروجها منه عند التقييد. وهذا يدل على أن الحقيقة قوله: ((الإيمان بضع وسبعون شعبة)) (٢).

وأما حديث جبريل فإن كان أراد بالإيمان ما ذكر مع الإسلام، فهو كذلك، وهذا هو المعنى الذي أراد النبي صلى الله عليه وسلم قطعا، كما أنه لما ذكر الإحسان أراد الإحسان مع الإيمان والإسلام ولم يرد أن الإحسان مجرد عن إيمان وإسلام. ولو قدر أنه أريد بلفظ الإيمان مجرد التصديق، فلم يقع ذلك إلا مع قرينة، فيلزم أن يكون مجازا، وهذا معلوم بالضرورة لا يمكننا المنازعة فيه بعد تدبر القرآن والحديث" (٣).ثانيا: يقال بأن القول بأن الأعمال تدخل في الإيمان من باب المجاز، كالقول بأن الأسماء الشرعية، كالصلاة والحج، على معناها اللغوي، وأن ما زاده الشارع إنما هو زيادة في الحكم وشرط فيه لا داخل في الاسم، كمال قال ذلك القاضي الباقلاني، والقاضي أبو يعلى (٤)، على أن الشرع زاد أحكاما شرعية جعلها شروطا في القصد والأعمال والدعاء، ليست داخلة في مسمى الحج والصيام والصلاة.

وهذا القول مرجوح عند الفقهاء، وجماهير المنسوبين إلى العلم، ولهذا كان الجمهور من أصحاب الأئمة الأربعة على خلاف هذا القول.

فإذا قال قائل: إن اسم الإيمان إنما يتناول مجرد ما هو تصديق، وأما كونه تصديقا بالله وملائكته وكتبه ورسله، وكون ذلك مستلزما لحب الله ورسوله ونحو ذلك هو شرط في الحكم لا داخل في الاسم إن لم يكن أضعف من ذلك القول، فليس دونه في الضعف. وكذلك من قال إن الأعمال الظاهرة لوازم للباطن، لا تدخل في الاسم عند الإطلاق يشبه قوله قول هؤلاء (٥).ثم "لو سلمنا للخصم كون هذه الألفاظ من الصلاة والحج ونحوها منقولة، أو محمولة على وجه من المجاز بدليل مقطوع به، فعليه إقامة الدليل على وجود ذلك في الإيمان" (٦).

ثالثا: يقال "لمن قال دخول الأعمال الظاهرة في اسم الإيمان مجاز: نزاعك لفظي.

فإنك إذا سلمت أن هذه لوازم الإيمان الواجب الذي في القلب وموجباته، كان عدم اللازم موجبا لعدم الملزوم، فيلزم من عدم الظاهر عدم الباطن.

فإذا اعترفت بهذا كان النزاع لفظيا.

وإن قلت ما هو حقيقة قول جهم وأتباعه، من أنه قد يستقر الإيمان التام الواجب مع إظهار ما هو كفر، وترك جميع الواجبات الظاهرة. قيل لك: فهذا يناقض قولك إن الظاهر لازم له، وموجب له" (٧).

الحجة الخامسة

وهذه الحجة من أهم حجج المرجئة، فهي الأصل الذي نشأ منه النزاع، وتفرعت عنه البدع في الإيمان، وحاصل هذا الأصل:


(١) انظر: الإيمان ص٨٣ ((الفتاوى)) (٧/ ٨٧).
(٢) رواه البخاري (٩) , ومسلم (٣٥) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه, واللفظ لمسلم.
(٣) ((الإيمان)) (ص١١٢) ((الفتاوى)) (٧/ ١١٦ - ١١٧)؛ ونحوه في: ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (٧/ ٥٧٦ - ٥٧٧، ص٤٨٣) ط. ابن الجوزي.
(٤) انظر: ((التمهيد))، للباقلاني، (ص٣٩٠)؛ و ((مسائل الإيمان))، لأبي يعلى، (ص٢٩٧).
(٥) انظر: ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (٧/ ٥٧٧ - ٥٧٨، ص٤٨٤ – ٤٨٦) ط. دار ابن الجوزي.
(٦) انظر: ((الإيمان)) (ص٤٢٠) ((الفتاوى)) (٧/ ٤٤٠).
(٧) ((الإيمان الأوسط))، ضمن: مجموع ((الفتاوى)) (٧/ ٥٧٩، ص٤٨٩) ط. ابن الجوزي.

<<  <  ج: ص:  >  >>