للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أنهم جعلوا الإيمان شيئا واحدا، لا يتبعض، وقالوا: لو كان الإيمان مركبا من أقوال وأعمال، باطنة وظاهرة، للزم منه أمرين كلاهما ممنوع.

أحدهما: زوال الإيمان بزوال بعضه.

فلو صارت الأعمال جزءا من الإيمان، فإذا ذهبت ذهب بعضه، فيلزم إخراج مرتكب الكبيرة من الإيمان، وتكفير أهل الذنوب، أو تخليدهم في النار، كما هو قول الخوارج والمعتزلة.

والثاني: أن يكون الرجل مؤمنا بما فيه من إيمان، كافرا بما فيه من فكر، فيقوم به كفر وإيمان.

وهذا مخالف لما انعقد عليه الإجماع عندهم من أنه لا يجتمع في العبد إيمان وكفر.

هذا ملخص هذه الحجة، وقد أكثر شيخ الإسلام من ذكرها، واعتنى بنقضها، وهذا سياق بعد ما جاء عنه في ذلك:

يقول رحمه الله بعد عرض مطول لاختلاف الفرق في حقيقة الإيمان:

"وأصل نزاع هذه الفرق في الإيمان، من الخوارج، والمرجئة، والمعتزلة، والجهمية، وغيرهم:

أنهم جعلوا الإيمان شيئا واحدا، إذا زال بعضه زال جميعه، وإذا ثبت بعضه ثبت جميعه، فلم يقولوا بذهاب بعضه وبقاء بعضه".

ثم شرح موقف الخوارج والمعتزلة من هذا الأصل، ثم ثنى بشرح موقف المرجئة، فقال:

"وقالت المرجئة، والجهمية: ليس الإيمان إلا شيئا واحدا، لا يتبعض.

إما مجرد تصديق القلب، كقول الجهمية.

أو تصديق القلب واللسان، كقول المرجئة.

قالوا: لأنا إذا أدخلنا فيه الأعمال صارت جزءا منه، فإذا ذهبت ذهب بعضه، فيلزم إخراج ذي الكبيرة من الإيمان، وهو قول الخوارج والمعتزلة، لكن قد يكون له لوازم ودلائل، فيستدل بعدمها على عدمه".

ثم قال: "وجماع شبهتهم في ذلك: أن الحقيقة المركبة تزول بزوال بعض أجزائها، كالعشرة، فإنه إذا زال بعضها لم تبق عشرة، وكذلك الأجسام المركبة، كالسكنجبين إذا زال أحد جزأيه خرج عن كونه سكنجبينا.

قالوا: فإذا كان الإيمان مركبا من أقوال وأعمال، ظاهرة وباطنة، لزم زواله بزوال بعضها، وهذا قول الخوارج والمعتزلة. قالوا: ولأنه يلزم أن يكون الرجل مؤمنا بما فيه من الإيمان، كافرا بما فيه من الكفر، فيقوم به كفر وإيمان، وادعوا أن هذا خلاف الإجماع" (١).

وقال شيخ الإسلام: "فكان من أول البدع والتفرق الذي وقع في هذه الأمة بدعة الخوارج المكفرة بالذنب، فإنهم تكلموا في الفاسق الملي:

فزعمت الخوارج، والمعتزلة: أن الذنوب الكبيرة - ومنهم من قال: والصغيرة - لا تجامع الإيمان أبدا، بل تنافيه وتفسده، كما يفسد الأكل والشرب الصيام.

قالوا: لأن الإيمان هو فعل المأمور وترك المحظور، فمتى بطل بعضه بطل كله، كسائر المركبات"، ثم قال:

"وقابلتهم المرجئة، والجهمية، ومن اتبعهم من الأشعرية، والكرامية، فقالوا: ليس من الإيمان فعل الأعمال الواجبة، ولا ترك المحظورات البدنية.

والإيمان لا يقبل الزيادة والنقصان، بل هو شيء واحد، يستوي فيه جميع المؤمنين من الملائكة، والنبيين، والمقربين، والمقتصدين، والظالمين.

ثم قال فقهاء المرجئة: هو التصديق بالقلب، واللسان.

وقال أكثر متكلميهم: هو التصديق بالقلب.

وقال بعضهم: التصديق باللسان.

قالوا: لأنه لو دخلت فيه الواجبات العملية؛ لخرج منه من لم يأت بها، كما قالت الخوارج. ونكته هؤلاء جميعهم: توهمهم أن من ترك بعض الإيمان، فقد تركه كله" (٢).

وقال شيخ الإسلام: "فإن قيل: إذا كان الإيمان المطلق يتناول جميع ما أمر الله به ورسوله، مفتى ذهب بعض ذلك بطل الإيمان، فيلزم تكفير أهل الذنوب، كما تقوله الخوارج، أو تخليدهم في النار، وسلبهم الإيمان بالكلية، كما تقوله المعتزلة، وكلا هذين القولين شر من قول المرجئة.


(١) ((الإيمان الأوسط))، ضمن: ((الفتاوى)) (٧/ ٥١٠ - ٥١١)، (ص٣٨٣ – ٣٨٥) ط. ابن الجوزي.
(٢) ((الفتاوى)) (١٢/ ٤٧٠ – ٤٧١).

<<  <  ج: ص:  >  >>