للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فإن المرجئة منهم جماعة من العلماء والعباد المذكورين عند الأمة بخير، وأما الخوارج والمعتزلة، فأهل السنة والجماعة من جميع الطوائف مطبقون على ذمهم ثم قال:

"وأما قول القائل: إن الإيمان إذا ذهب بعضه ذهب كله، فهذا ممنوع.

وهذا هو الأصل الذي تفرعت عنه البدع في الإيمان، فإنهم ظنوا أنه متى ذهب بعضه ذهب كله، لم يبق منه شيء.

ثم قالت الخوارج والمعتزلة: هو مجموع ما أمر الله به ورسوله، وهو الإيمان المطلق، كما قال أهل الحديث.

قالوا: فإذا ذهب شيء منه لم يبق مع صاحبه من الإيمان شيء، فيخلد في النار.

وقالت المرجئة على اختلاف فرقهم: لا تذهب الكبائر، وترك الواجبات الظاهرة شيئا من الإيمان؛ إذ لو ذهب شيء منه لم يبق منه شيء، فيكون شيئا واحدا يستوي فيه البر والفاجر" (١).

وقال شيخ الإسلام رحمه الله: "وقد بسط القول على منشأ الغلط؛ حيث ظنوا أن الإيمان لا يكون إلا شيئا متماثلا عند جميع الناس، إذا ذهب بعضه ذهب سائره"، ثم ذكر قول الخوارج والمعتزلة، ثم قال:

"وقالت الجهمية، والمرجئة: بل الأعمال ليست من الإيمان، لكنه شيئان، أو ثلاثة، يتفق فيها جميع الناس: التصديق بالقلب، والقول باللسان، أو المحبة والخضوع مع ذلك.

وقالت الجهمية، والأشعرية، والكرامية: بل ليس إلا شيئا واحدا يتماثل فيه الناس. وهؤلاء الطوائف أصل غلطهم: ظنهم أن الإيمان يتماثل فيه الناس، وأنه إذا ذهب بعضه ذهب كله" (٢).

وحول الإجماع المزعوم على أنه لا يجتمع في العبد إيمان ونفاق يقول شيخ الإسلام:"ومن العجب أن الأصل الذي أوقعهم في هذا - يعني ظنهم أن الشيء إذا زال بعضه زال كله -: اعتقادهم أنه لا يجتمع في الإنسان بعض الإيمان وبعض الكفر، أو ما هو إيمان وما هو كفر، واعتقدوا أن هذا متفق عليه بين المسلمين" (٣).ويقول: "وطوائف أهل الأهواء، من الخوارج، والمعتزلة، والجهمية، والمرجئة، كراميهم، وغير كراميهم، يقولون: إنه لا يجتمع في العبد إيمان ونفاق" (٤).ويقول أيضا: "والأصل الذي منه نشأ النزاع اعتقاد من اعتقد أن من كان مؤمنا لم يكن معه شيء من الكفر والنفاق، وظن بعضهم أن هذا إجماع، كما ذكر الأشعري أن هذا إجماع، فهذا كان أصل الإرجاء" (٥).

وبعد، فقد تعمدت إيراد هذه النقول رغم طولها، وتشابه بعضها؛ لكي تنجلي المسألة غاية الجلاء، وبها ينكشف أصل الضلال في مقالة الإرجاء، وأنه قوم على ما يلي:

أولاً: زعمهم أن الإيمان شيء واحد، يتساوى فيه المؤمنون، برهم وفاجرهم.

ثم اختلفوا في حقيقة هذا الشيء، فمنهم من جعله مجرد تصديق القلب، ومنهم من جعله تصديق القلب وقول اللسان، ومنهم من جعله مجرد قول اللسان.

ثانياً: توهمهم أنه إذا زال بعضه زال جميعه، وإذا ثبت بعضه ثبت جميعه.

فنفوا كونه متبعضا، أو متفاضلا، وأخرجوا الأعمال الظاهرة والباطنة منه؛ لئلا يوافقوا الخوارج والمعتزلة في إخراج مرتكب الكبيرة من الإيمان.

ثالثا: زعمهم أن العبد لا يجتمع فيه بعض الإيمان وبعض الكفر.

وأمام هذا الفهم الفاسد للإيمان صار كلام السلف معهم يدور في إبطال ذلك، منطلقا من ثلاث مقامات:

المقام الأول: إبطال كون الإيمان شيئا واحدا، بل هو شعب وأجزاء.

المقام الثاني: إبطال أن الإيمان إذا ذهب بعضه ذهب كله.

المقام الثالث: تقرير أن العبد يجتمع فيه إيمان ونفاق، وطاعة ومعصية.

وهذا تفصيل لهذا الإجمال:

المقام الأول: إبطال كون الإيمان شيئا واحدا، بل هو شعب وأجزاء.


(١) ((الإيمان)) (ص٢٠٩ - ٢١٠) ((الفتاوى)) (٧/ ٢٢٣).
(٢) ((النبوات)) (١/ ٥٨٢ - ٥٨٣).
(٣) ((الإيمان)) (ص ٣٨٧) ((الفتاوى)) (٧/ ٤٠٤).
(٤) ((الإيمان)) (ص٣٣٧) ((الفتاوى)) (٧/ ٣٥٣).
(٥) ((الفتاوى)) (١٣/ ٤٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>