للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "والذين قعدوا عن القتال جملة أعيان الصحابة كسعد وزيد وابن عمر وأسامة ومحمد بن مسلمة، وأبي بكرة، وهم يروون النصوص من النبي صلى الله عليه وسلم في القعود عن القتال في الفتنة. وهذا مذهب أهل الحديث وعامة أئمة السنة حتى قال الإمام أحمد: لا يختلف أصحابنا أن قعود علي عن القتال كان أفضل له لو قعد، هذا ظاهر من حاله في تلومه في القتال وتبرمه به، ومراجعة الحسن ابنه له في ذلك، وقوله له: ألم أنهك يا أبت؟ وقوله: لله در مقام قامه سعد بن مالك, وعبدالله بن عمر، إن كان برا إن أجره لعظيم، وإن كان إثما إن خطأه ليسير" (١).وينبه الإمام النووي على أمر مهم فيقول: "قوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا تواجه المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار)) (٢)، معنى: تواجها ضرب كل واحد وجه صاحبه أي ذاته وجملته، وأما كون القاتل والمقتول من أهل النار فمحمول على من لا تأويل له ويكون قتالها عصبية ونحوها ... واعلم أن الدماء التي جرت بين الصحابة رضي الله عنهم ليست بداخلة في هذا الوعيد، ومذهب أهل السنة والحق إحسان الظن بهم والإمساك عما شجر بينهم، وتأويل قتالهم وأنهم مجتهدون متأولون لم يقصدوا معصية ولا محض الدنيا، بل اعتقد كل فريق أنه المحق ومخالفه باغ، فوجب عليه قتاله ليرجع إلى أمر الله، وكان بعضهم مصيبا وبعضهم مخطئا معذورا في الخطأ لأنه لاجتهاد، والمجتهد إذا أخطأ لا إثم عليه، وكان علي رضي الله عنه هو المحق المصيب في تلك الحروب. هذا مذهب أهل السنة، وكانت القضايا مشتبهة حتى أن جماعة من الصحابة تحيروا فيها فاعتزلوا الطائفتين، ولم يقاتلوا أو لم يتيقنوا الصواب ثم تأخروا عن مساعدته منهم" (٣).

ختاما: إن الناظر في حال الصحابة رضي الله عنهم يظهر له ويتبين سلامتهم من الفرقة، فقد كانوا على الجماعة حريصين، ومن الفرقة بعيدين، وفي موقفهم من الفرقة متحدين، لتقديمهم نصوص الوحي، ولاتباعهم هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولسلوكهم السبيل الذي دعا إليه محمد صلى الله عليه وسلم كما قال الله تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف: ١٠٨].

فهم رضي الله عنهم سائرون على الصراط المستقيم الذي وصاهم به ربهم تعالى، مجانبون في ذلك سبل الضلالة، قال الله تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام: ١٥٣]

إن وحدة الموقف تنتج من وحدة المنهج، فهل تعي الأمة ذلك وتعود لتوحد مناهجها لتتحد مواقفها، وتعود لقول ربها لتلتئم وحدتها بتوحيدها لله رب العالمين قولا وعملا، وتصديقا وتسليما، ويعود كما كان البنيان المرصوص، والجسد الواحد، أسأل الله ذلك.

المصدر:موقف الصحابة من الفرقة والفرق لأسماء السويلم - ص٣٢٧ - ٣٤٧


(١) ((الفتاوى)) (٤/ ٢٦٩)، وانظر منه (٣٥/ ٣٣، ٣٦)، ((منهاج السنة النبوية)) (٦/ ٣٣٣).
(٢) رواه مسلم (٢٨٨٨) ورواه البخاري (٣١) بلفظ التقى.
(٣) شرح ((صحيح مسلم)) للنووي (١٨/ ١١).

<<  <  ج: ص:  >  >>